من السهل أن يتعرف الجمهور على أعمال الفنان عبدالسلام عيد، وخاصة إذا كان من محبي مدينة الاسكندرية. فقد ملأ الفنان السكندري -بشدة- شوارع عروس البحر المتوسط بأعماله الجدارية التي تتميز برؤية مستقبلية للفن انتهجها منذ بداياته في سبعينيات القرن الماضي. وفي معرضه الذى أقيم مؤخرا فى قاعة سفر خان بالقاهرة تعرفنا على أوجه أخرى من عالمه الفني من اللوحات المائية والمجسمات الصغيرة والتي تعكس جميعها بحثه عن وحدة العمارة والنحت والتصوير. سلك عبد السلام عيد، استاذ التصوير بفنون جميلة الاسكندرية، طريقه في بداياته على خطى «دوبوفيه» و«مارسيل دي شان» اللذين عرفا بجمع اللقيات -عديمة القيمة أحيانا- لعمل تكوينات ثلاثية الأبعاد تجعل من العناصر المتنافرة وحدة مختلفة وتبعث بها حياة جديدة، لكنه سرعان ما دمغ أعماله بولع صوفي لمدينته الأثيرة انعكس في طبقات العمل المختلفة التي تسائل التاريخ وتحمل روح الحضارة المتوسطية، وتطرح تساؤلات فلسفية. حصل عيد على جائزة الدولة التقديرية في 2005، كما حصل في 1977 على جائزة إيطالية قومية، تمنح عادة لأبناء البلد، وهي جائزة أكاديمية الفنون الجميلة «لوبيام». جمع معرضك الأخيربين اللوحات المائية والجداريات والأعمال ذات البعد الثالث التي يمكن اعتبارها عملا مركبا، لكنك عُرفت دائما بالجداريات العملاقة التي تجمل العديد من شوارع الاسكندرية بأسلوب حداثي صعب أن تخطئه العين، لماذا كان اختيارك بل ولعك بفن الجداريات؟ أنا عاشق للخامة في الأساس، يجوز أن الجداريات تمنحني المعادلة التي ابحث عنها دائما، وهي وحدة التصوير والنحت والعمارة. كانت أولى الجداريات التي كلفت بتنفيذها في الاسكندرية في السبعينات، عند فندق سان جيوفاني العريق. ورشحت بعدها لتمثيل مصر في مدينة ليون بفرنسا، كان احتفالا بالفنان توني جارنييه عن طريق إقامة أول متحف للتصوير الجداري في العالم تحتل فيه الجداريات واجهات الأبنية، ووجهت الدعوة لخمسة فنانين آخرين عبر العالم منهم الروسي والأمريكي والهندي والمكسيكي ومن ساحل العاج أيضا، وكانت الفكرة هي تصور مدينة صناعية نموذجية تتماشى مع حياة ساكنيها من عمال الحرير، وعمل متحف مفتوح في الهواء الطلق على خطى جارنييه وتصوراته عن المدينة النموذجية. كان تصميمي لجدارية طولها 22 مترا وعرضها 13 ، وكان موضوعي هو المدينة الفاضلة، أي المدينة التي تحترم التاريخ والحضارة وترعى البيئة المسموعة والمرئية والطفل والأمومة والتعليم وتحترم الديانات. «كما علت العديد من الجداريات مثل جدارية مبنى الفنون الجميلة بجناكليس بالاسكندرية، فضلا عن مجموعة في السعودية، منها مجسمات حجرية وجدارية الملك عبد العزيز التي تبلغ 700 متر في قاعة المؤتمرات بجامعة الملك عبد العزيز، وكان التصميم لاستورلاب تاريخ الحضارة العربية التي يحملها أحد المراكب، بينما مركب آخر يحمل ارهاصات العلم وأمهات الكتب العربية التي كان لها الفضل على الحضارة الأوروبية. وصفك الفنان والناقد مصطفى الرزاز بأنك تمتلك حساسية الصياد في التقاط المتروكات وبقايا الخامات المصنوعة، والألياف والحبال والأقمشة والشباك وتستخدمها بشكل موسوعي قدير، ووصف الفنان بيكار استخدامك للحبال بأنك تعزف بالحبال في أعمالك، هل هي قيم الحداثة التي تغويك أم عشق التجريب أم ماذا؟ هناك بلا شك عشق للخامة ولهذه اللقيات التي أعثر عليها وأتخيل لها حياة جديدة في عمل ما قادم، هذا العشق عبرت عنه في مقدمة معرضي هذا بهذه الكلمات : «لا أعرف متى أستوقفتنى هذه المعادلة التى يتشكل حولها بناء ووحدة العمل الفنى . إنها معادلة العلاقة بين الخامة و الفكرة و التصميم والأداء، تلك التى تتفاعل أطرافها فى موضوع العمل الفنى التشكيلى. تأملتها كثيرا طوال مشوارى الفنى و أكتشفت منذ البدايات الأولى أننى كنت مولعا بالخامات كنت و مازلت أعتصرها و أطوعها حتى تحملنى الى حيث أشاء .. و الى اللحظات التى يولد فيها أمامى العمل الفنى الذى بدأته بوحدته التى تستوقفنى ولا تسمح لى أن أضيف اليه أى شئ آخر. تلك هى المعادلة التى حكمت أسلوبى الفنى منذ زمن بعيد.. لاأعرف متى بدأ». ما السر في هذا التناقض المحسوب -على ما يبدو- والذي يميز العديد من الأعمال بين الاطار التقليدي المحكم مثل تلك اللوحة بيضاوية الشكل بينما يتكون الفورم من الحبال وشباك الصيد ؟ استدعي في أعمالي دائما التراث وارهاصات التاريخ، كما لو أني أثناء انشغالي في العمل الفني استحضر موسيقى ما تثير أصداء التاريخ. والاسكندرية دائما هي مركز كل شيء، حين لجأت إلى الحبال كاطار للوحة البحر كانت بالنسبة لي تأطير لملوحة بحر الاسكندرية. أظن أن أعمالي تتنفس حضارة البحر الأبيض المتوسط، أرسطو وأفلاطون، حتى فيثاغورس أعيد اكتشافه في الاسكندرية. استلهم حضارة العرب القديمة أثناء عملي وفي نفس الوقت أتفاعل مع الحاضر حولي، فالحضارة تبدو لي مثل الأواني المستطرقة، عندما تغوص واحدة تملؤها الأخرى، ولا أظن أن هناك حضارة تتمتع بهذا الزخم وهذه الخمائر مثل الحضارة المصرية، التي قد تصاب بالاعياء أحيانا، لكنها أبدا لا تموت. ألا تعوق هذه النظرة للتاريخ الروح المعاصرة للأعمال؟ في حلقة نقاش أقيمت في بينالي الاسكندرية الذي رشحت به عام 1984، ووجه الناقد المرموق البرتو بورجيزي بسؤال من الحضور حول عودة الفن للوراء باستلهامه التراث، فكان رده نافيا مشيرا أن هناك لا شك نظرة إلى التاريخ ولكنها ليست بأي حال من الأحوال عودة إلى الماضي. ففي مرحلة التكوين قرأت الفيلسوف نيتشه وحديثه عن الانغماس في الحرب بغض النظر عما تجنيه من نصر، حيث أذكر مقولته «ولا تبالي بما تجنيه عليك جهودك، إن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك». كان ذلك في سنوات البحث عن الذات، ثم عثرت على قول الرسول الكريم «أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. وبين هاتين المحطتين اخترت الطريق. فالمهم هو اجتياز الطريق وليس بلوغ الهدف، لأن الهدف قد يكون تم بلوغه منذ البداية. فأنا أرى أن على الفنان أن يحمل رؤية عميقة للواقع، رؤية مرنة وحرة لا يحدها زمن، يتعامل مع جميع القضايا دون أن تحده قيود المنطق والعلم، لأن الفنان في نهاية المطاف خارج المعقول وخارج اللامعقول. الفنان يملك الأدوات التي تلهم وتبهر وتكشف وتحرر.