ضجة إعلامية صاحبت تدشين عملية "ترايتون" البحرية فى حوض البحر المتوسط احتفاء ببدء تدخل أوروبى موحد للسيطرة على موجات الهجرة غير الشرعية المتدفقة من شمال إفريقيا المنكوب إلى الاتحاد الثرى، والتى غالبا ما تنقلب إلى حوادث مأساوية. ويترسخ انطباع لدى الكثيرين بأن المهمة الأوروبية ستكون أكثر فاعلية من “مارى نوسترام” التى أطلقتها إيطاليا من جانب واحد قبل عام، بعد حادثين مأساويين لغرق مركبين تقلان مهاجرين غير شرعيين بالقرب من السواحل الإيطالية، وراح ضحيتهما 400 شخص. وإذا كانت "مارى نوسترام" قد تمكنت من إنقاذ ما يقارب ال 150 ألف شخص خلال فترة عملها - مع إعادتهم إلى بلدانهم وفقا لضوابط القانون الدولى - فإن مهمة ترايتون الأوروبية تبدو غير مفهومة نوعا ما، فقد أكدت تشيشيليا مالمستورم المفوضة الأوروبية للشئون الداخلية أن ترايتون لن تحل محل العمليةالإيطالية ولا توجد نية لذلك، كما أوضح جيل أرياس فيرنانديز رئيس وكالة الحدود الأوروبية أن ترايتون لن تقوم بعمليات بحث وإنقاذ فى المياه - كما كانت تفعل مارى نوسترام - وإنما تتحدد مهمتها فى "السيطرة على الحدود". ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد جاء تشكيل وتمويل عملية ترايتون باهتا، مقارنة بالعملية التى أطلقتها إيطاليا تحت ضغوط دولية وانتقادات لاذعة من المنظمات الحقوقية، حملت فيها روما المسئولية الإنسانية عن حادثى أكتوبر 2013. وتعتمد مهمة ترايتون على 3 طائرات و7 فرقاطات، ليقف نطاق عملها حتى مسافة 30 ميلا من السواحل الإيطالية، بميزانية تبلغ نحو 3 ملايين يورو شهريا، بينما كانت العملية الإيطالية أكبر من حيث الإمكانات وتغطى مسافة 172 ميلا بتكلفة تتجاوز التسعة ملايين يورو شهريا، وكانت مهمتها إجراء عمليات البحث والإنقاذ للآلاف الذين يواجهون الغرق فى أعالى المتوسط وبالقرب من السواحل الليبية وجاءت ترايتون استجابة لضغوط لحوحة مارستها إيطاليا على دول الاتحاد الأوروبى لمشاركتها المسئولية فى مواجهة طوفان المهاجرين الذى جاء مع سقوط الأنظمة العاتية فى شمال إفريقيا فيما عرف ب "الربيع العربى". وانطوت هذه الضغوط فى بعض الأحيان على منح المهاجرين غير الشرعيين الراغبين فى الانتقال إلى دول أوروبية أخرى مثل فرنسا أو ألمانيا وثائق مؤقتة، مما أثار أزمة كبيرة داخل الاتحاد. ومع ميلاد ترايتون وانتهاء مارى نوسترام، رفعت المنظمات المعنية برعاية اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين درجة الإنذار، فحذرت منظمة "كاريتاس إيطاليا" من أن المتوسط سيشهد المزيد من الموت والمزيد من المحن، وأوضحت أن المتدفقين على مراكز طلب المساعدة من المهاجرين غير الشرعيين فى إيطاليا يطلبون الحماية الدولية، مشيرة إلى أنهم لا يعدون مجرد مهاجرين وإنما غادروا بلادهم بعد أن مزقت الحرب أوصالها. أما منظمة العفو الدولية فقد حذرت من عواقب وخيمة، وأكد جون دلهاوزن مدير برنامج أوروبا وآسيا الوسطى بالمنظمة أن "ترايتون" لن تلبى حاجات آلاف المهاجرين واللاجئين، بمن فيهم أولئك الذين يجبرون على الفرار من الحرب والاضطهاد فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وإنما ستكون مجرد عملية حدودية. هذا التنصل الأوروبى الواضح من صيحات الغرقى فى المتوسط، صاحبته انتهاكات أخرى للقوانين الدولية وحقوق الإنسان. فالقانون الدولى يحظر إعادة الناجين الذين تم انتشالهم من المياه إلى بلادهم الأصلية إذا ما كانوا "قصر"، كما يقدم لهم الحماية بصفة "لاجئ" إذا ما كانوا قادمين من دول تشهد نزاعات. وأمام قدر إيطاليا الجغرافى الذى وضعها فى مأزق، ارتكبت روما عدة مخالفات للقوانين الدولية، حتى أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكما الشهر الماضى يدين روما بانتهاك حقوق المهاجرين. وما بين أوضاع غير آدمية، وسوء معاملة فى مراكز استقبال المهاجرين بإيطاليا، وإغلاق دول الاتحاد أبوابها أمام اللاجئين القادمين من بلاد بائسة بفعل العملية ترايتون .. لا عزاء للقانون الدولى. أما المهاجرون فليس أمامهم إلا البقاء فى بلدانهم وسط المعاناة المعيشية، أو الإقدام على مغامرة فى مياه البحر المتوسط، ولكنهم هذه المرة لن يجدوا من ينقذهم!.