حجازى الذى تراه صلبا، عنيفا، واثقا بنفسه، إلى حد الزهو، روضته المدن والمصادفات. حجازى يغرى بالحوار.. بالاختلاف. لأنه، أولاً وأخيراً، أمين وحر. يصادق تجربته، إلى حد التوحد معها، ويثمن حظه السعيد. شعره هو ما يتوكأ عليه فى مواصلة نشاطه، رغم تغير الذوق وجريان المياه فى النهر. ما زال محل اهتمام لم تنل أعوام طويلة قل فيها عطاؤه الشعرى من صداه. إذن لم يعد ساخطا على القاهرة، وإن كان لا يزال، فلأسباب مختلفة، ليس منها التجاهل الذى استقبلته به قبل ستين عاما. على العكس أظن أن حجازى يشفق على القاهرة. لقد انتهت صلاحيتها ولم تعد تحتكر الحقيقة. كان فى السبعين، حين رأيته منذ سنوات، فى بيته، بلا غضون فى الوجه أو كرمشة فى الرقبة, متوثبا فى حركاته وطريقة أدائه حتى للكلام العادى. منحته باريس رخصة الرضا عن الذات والدور، ففى مصادفة سعيدة ذهب إليها حجازى فى مهمة صحفية كان مخططا لها أن تستمر بضعة أشهر، فإذا بها تتمدد على 17 عاما. لقد عرف كيف يختار أماكنه وجبهاته ومواقفه.. مصادفاته إذا أمكن التعبير. ثم إنه قد تناسل فى كثيرين، وربما انتظر من شعراء قصيدة النثر أن يكونوا أحفاد حجازى، لكن موقفه المتعنت من حقهم فى الشعر باعد بينه وبين أجيال كثيرة انتظرت منه أن يكون حادياً، لا حجر عثرة، فى الطريق. على كل, لم يعد أحد ممن يكتبون قصيدة النثر مشغولاً باعتراف حجازى. لذلك سأؤجل سؤاله عن القصيدة الخرساء كما يسميها. سأسأله عن الزمن.. كيف يتعاطاه وبأية لغة يحاوره. الآن، وأنا فى التاسعة والسبعين، أشعر بالزمن على نحو قوى. من قبل كنت أعيش اللحظة. لم أكن أنظر للزمن باعتباره ماضيا. كان حاضرا فقط. الآن أصبحت له علامات. مثلاً.. رحل عدد كبير من أصدقائى. خلا منهم الحاضر ومن ثم أنظر ورائى لأتذكرهم وأتذكر نفسى معهم. هناك أيضا المستقبل. فى الماضى كنت أنظر إليه باعتباره أملاً، الآن صار خطرا. ما أعز انتصار أحرزته فى الحياة؟ الشعر..نظمت شعراً لم ينظمه غيرى، شعرى سيبقى. هناك انتصار أخلاقى أيضاً، فقد عشت حياة محفوفة بالمخاطر والإغراءات، مع ذلك صنت نفسى من الانزلاقات الخطرة... رغم أن كتابة الشعر بحاجة إلى المغامرة والخطر؟ المغامرة الفنية، فى جوهرها، أخلاقية، لأن البحث عما لا يتاح لغيرك.. عن هذه اللؤلؤة، التى لن تصل إليها ما لم تكن مسلحاً، إلى جوار الموهبة، بهذا الإخلاص الذى يجعلك تضحى بكل شىء فى مقابل ما تصل إليه. وثقتك المفرطة بنفسك.. أهى نوع من الوقاية تلجأ إليها خوفاً من الاقتحام. ثم ألا ينبغى لحامل القصيدة أن يتحلى بالتواضع؟ عليك أن تدخل إلى الشعر وأنت مدرك أن هذا العالم لن يمنحك شيئاً إلا إذا كنت متواضعاً.. بمعنى أن تكون مستعداً لما سيلقى إليك. إذا شعرت، وأنت تدخل هذا العالم، أنك ستقتنص كل ما تسعى إليه، فلن تصل إلى شىء. التلطف فى البحث عن هذا الجوهر هو ضمانة الوصول إليه، لأن التواضع، ببساطة، معناه الاستعداد لتغيير الطريق. إذا اعتقدت أن هناك طريقاً واحداً للوصول، ستضل. التواضع، فى جوهره، ينطوى على نبالة.. أن تعرف قيمتك، وتعرف، فى الوقت نفسه، قيمة المثل الأعلى. وأنا رجل عشت حياتى بلا مناصب فى وسط اعتاد على احترام أصحاب المناصب واقتحام غيرهم. لذلك فإن ما تسميه أنت إفراطا فى الثقة أسميه أنا مسافة. فى سعيك للاكتشاف..أى حقيقة عرفت؟ هناك حقيقة كلية موجودة باستمرار، وهى هذا الوجود، لكنى لم أكتشفها. أما اكتشافاتى فذات طابع جزئى.. تفاصيل. فكرة الحقيقة التى يمكن أن نصل إليها ونعتبر أنها هى الحقيقة، يمكن أن تؤدى بنا إلى التوقف، ثم إن ادعاء الوصول إلى الحقيقة الكلية يصنع الطغيان. وعن نفسى أنا قانع بالحقائق الجزئية. مثل؟ حقيقة أنك تعيش وتتمتع بالحياة وتعرف الآخرين وتعرف الحب. هذه حقائق ممتعة ألاحظ أنك تنظر إلى تجربتك باعتبارها شيئاً فريداً من نوعه؟ هذا صحيح، لأنى عشت حياتى بصدق، وأعتقد أن من يعيش حياته هكذا لا بد أن تكون له هو أيضاً تجربة فريدة، هذا ليس امتيازاً مقصورا علىّ. هل أعطيت الحياة بقدر ما أخذت منها؟ الحياة أعطتنى الكثير، أعطتنى ما لم أكن لأحصل عليه لو كنت أنا الساعى فى طلبه. هناك أشياء وقعت لى لا يمكن تفسيرها. خذ مثلاً، فى بداية حياتى العملية عام 1955، كان ينبغى أن أعمل مدرساً بإحدى القرى فى المنوفية، عقب تخرجى من مدرسة المعلمين، لكن ذلك لم يحدث، لأن الأمن منع تعيينى فى التدريس بسبب قيامى بمظاهرة ضد النظام. كانت تلك محنة أيامها، لكنى، فيما بعد، اكتشفت أن هذه المحنة هى أفضل ما حدث لى، لأنى جئت إلى القاهرة وعملت مصححاً فى دار الهلال لأسبوعين ب 5 جنيهات، أذكر أنى أعطيتها لأبى ففرح بى واحتضننى، لأول مرة، ثم مات بعدها بأسبوع، كأنه كان حضن الوداع. وبعد العمل فى دار الهلال، التحقت ب«صباح الخير» مصححاً لمدة شهرين وبعدها أصبحت محرراً. قصدى أنى مشيت فى طريق لم أخطط له وكانت النتائج أفضل مما لو رتبت. لقد قمت بتدريس الأدب العربى فى جامعة باريس سبعة عشر عاما متوالية، وحاضرت شهرا فى الكوليج دو فرانس دون أى ترتيب من جانبى، ولا أظن أن مثقفا مصريا غيرى أتيح له أن يحاضر فى الكوليج دو فرانس! المصادفة.. أهى التفسير المبسط للقدر؟ أتيح لى، وهذه مصادفة، أن أكون فى دار الهلال، كنت أعرف الناقد الراحل أنور المعداوى وهو بدوره رشحنى للعمل هناك، لكن عندما جاء دور الاختيار ووجدت نفسى فى مفاضلة بينها وبين روزاليوسف اخترت روزاليوسف. مشوارى إذن كان مزيجاً من المصادفات والتخطيطات. أعود إلى الشعر..بعد رحلتك معه..هل ثمة تعريف نهائى توصلت إليه، بحيث تقول إن هذا هو الشعر؟ أنا لم يشغلنى تعريف الشعر، شغلتنى كتابته . ما الذى أضافه لك ديوانك الأخير طلل الوقت؟ أظن أن قصائد طلل الوقت و خارج الوقت و الكروان قصيدتى عن العقاد، و نحت وأيام عمرى وشفق على سور المدينة إضافات لشعرى. هل تشعر أن قصيدة النثر قد أوقفت تناسلك؟ لا. أظن أن قصيدة النثر ليست بديلا عن قصيدة الوزن. وأقصى ما يمكن أن تحققه قصيدة النثر من نجاح هو أنه سيسمح لها بالوجود، لكنها لن تحل بديلا إلا فى حالة واحدة..هى اختفاء اللغة العربية الفصحى. وظنى أن الفصحى بدأت تنسحب الآن من حياتنا. وهذا الانسحاب ليس تعبيرا عن انحطاط فى الثقافة المصرية. ثقافتنا الآن منحطة. على ذكر الثقافة.. ما تفسيرك لترحيب المثقفين باستقالتك من مواقعك الثقافية المتعددة؟ انظر إلى أى مجال الآن وقارن العاملين فيه بأقرانهم من الأجيال السابقة واحكم على المستوى، لتعرف الإجابة. فى الماضى كنا نسخر من الروائيين، لأنهم لا يعرفون النحو، بشكل جيد. الآن الشعراء أنفسهم لا يعرفون النحو!! المحزن فى الموضوع هو هذا التراجع لثقافتنا. الدور الذى كانت تلعبه مصر من خلال الثقافة لم تعد تلعبه الآن . هل يمكن لجابر عصفور أن يفعل شيئاً حيال ذلك؟ إلى الآن لا يبدو لى ذلك. لا جابر عصفور ولا غيره، ليست المشكلة هى جابر عصفور، المشكلة هى أسلوب العمل. كيف يمكن الآن أن تبعث الثقافة المصرية من مرقدها. علينا أن نعرف.. ما الذى أدى بالثقافة المصرية إلى ما صارت إليه الآن. هذا السؤال لم يجب عليه أحد، إلا أنا، راجع مقالاتى فى الأهرام وستجد أن هذا الموضوع احتل جزءاً كبيراً من انشغالاتى. ألم تشعر بأنك أصبحت حجر عثرة فى طريق كنت بالأمس تسلكه! بدلاً من أن تتعهد التجريب بالرعاية رحت تتعهده بالسوط؟ دلنى على موهبة واحدة لم أحتضنها، حتى لو سارت فى طريق مختلف. أنا أرفض قصيدة النثر ولا أعتقد أنها الشكل الأمثل للكتابة الشعرية، مع ذلك كنت أنشرها. لأنى أستطيع أن أجد فى بعض المحاولات قيمة، لكن لم يحدث أن وقفت حجر عثرة فى طريق أحد. بالعكس أنا فتحت الطرق لكثيرين. ولذلك أنا راض عما فعلت. ألم تحتكر الجوائز؟ أية جوائز. ربيع الشعر..كنت مقرراً للدورة ومنحت نفسك الجائزة؟ هذا كذب، وثرثرة قهاوى. ما الشىء الذى لم تجربه بعد؟ كتابة المسرح الشعرى. أما زال فى الشعر بقية؟ طبعاً.