من قرأ كتاب الشاعر الامريكي ارشيبالد ماكليش "الشعر والتجربة" ، ومن قبله كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر سيجد في هذا الكتاب ( مقدمة في قصيدة النثر - أنماط ونماذج) ، الذي صدر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة الشاعر والمترجم محمد عيد ابراهيم ، فائدة كبيرة ، لأنه كتاب يبتعد عن التنظير لقصيدة النثر التي عرفت في العالم الغربي منذ 1831 ، ولكنها لم تدخل مشهدية الشعر العربي إلا في السنوات الخمسين الأخيرة، ويقترب من كونه درسا تطبيقيا لفهم القوانين الحاكمة لتلك القصيدة المراوغة المتمردة على الأنماط الاخرى للشعر. فقد نجح الشاعران الأمريكيان بريان كليمنس وجيمي دونام في رصد أكثر من 20 نمطا لكتابة قصيدة النثر. في البداية يقرر الكاتبان انهما يفضلان التعاطي مع قصيدة الشعر باعتبارها جنسا أدبيا تابعا للشعر وليست مجرد شكل شعري، ويعرفان تلك القصيدة بأنها قصيدة تكتب نثرا ، ويعودان إلى كتاب مايكل بنديكت "قصيدة النثر مختارات عالمية" الذي يقول إن قصيدة النثر تستعمل كل آلية شعرية قد يجدها الشاعر في الشعر باستثناء السطر المقطوع. ويرى الكاتبان ان قصيدة النثر ليست اقل شعرية من قصيدة الوزن او التفعيلة. وبعد مقدمة تاريخية قصيرة عن قصيدة النثر ومقاومتها في الولاياتالمتحدة يحدد الكاتبان أنماط الكتابة لهذه القصيدة والتي نختار منها .. نمط قصيدة الحكاية وهي تقرير سرديّ موجز يقوم على تجربة شخصية أو يوضع في سياق تاريخيّ معروف. وهي تختلف عن شكل الخرافة في أساس نبرتها وظرفها الواقعيّ. واستعمال لكلمة "الحكاية" anecdote، وتُترجَم عادةً ب "تاريخ سريّ"، مستقىً من عنوان سيرة سطّرها بروكبيوس، زمن الإمبراطور الرومانيّ جوستينيان الأول. وقدم الكاتبان عدة نماذج لهذه القصيدة السردية من أهمها قصيدة "احتفالية" للشاعرالتشيلي: بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل .. تقول القصيدة : "في 1847، هبطَت سفينةُ "سيمبلينا" الأمريكيةُ السريعةُ في خليجٍ صغيرٍ غُفلِ الاسمِ، شماليّ شيلي. انبثّ البحّارةُ لنزعِ تمثالِ مَقدِم السفينةِ وهي تُبحر. تمثالٌ أبيضُ ذهبيٌّ كعروسٍ شابة في زيّ إليزابيثيّ. وجهُ المرأة الخشبيّ مدهشٌ من جمالها المؤسِّي. تمرّد بحّارة "سيمبلينا". وقد اعتصموا حتى حرّك التمثالُ عينَيه في الرحلةِ، مما حرفَهم عن المسارِ وأرعبَ الطاقمَ. ليسَ من اليسيرِ خلعُ التاجِ عن ملكةٍ برأسِ سفينةٍ قديمةٍ متينة. أُكرِهَ البحّارةُ من فزعٍ دينيٍّ، فنشروا المثبّتَ القويّ الذي يربطها بقُطبِ مَقدِم السفينة المشدود، نزعوا بشيء من الخوفِ والتوقيرِ المساميرَ والصواميلَ حتى أنزلوه بزورقٍ بخاريٍّ حملهُ إلى الشاطئ.” وهناك أيضا نمط قصيدة الموضوع: ويكثر استخدام هذا النمط كثيراً من قبل شعراء قصيدة النثر و(الشعر) الحرّ على حدّ سواء، أشهرهم راينر ماريه ريلكه في "قصائد الأشياء" وكذلك فرنسيس بونج. وفي معظم قصائد الموضوع، يسعى الشاعر أن "يحيد عن الطريق" بالوصف واللغة ليكشف الملامح الأساسية للموضوع في تكثيف واستفاضة، حتى ليرقَى الوصف إلى "مستوى التأمّل". ومن النماذج التي اختارها الكتاب لقصيدة الموضوع قصيدة "البرتقالة" للشاعرالفرنسي فرنسيس بونج، تقول القصيدة : تتوقُ البرتقالةُ، كالإسفنجِ، أن تستعيدَ وجهها بعد تحمّلِ عذابِ التعبير. لكن الإسفنج ينجحُ دائماً، ولا تنجح البرتقالة؛ فخلاياها تنفجرُ، ونسيجُها يتمزّقُ. بينما تستعيدُ القشرةُ وحدها رخاوةَ شكلها، فشكراً لمرونتها، ينزّ منها سائلُها الكهرمان، مصحوباً كما نعلمُ بانتعاشٍ حلوٍ، شذا حلوٍ، لكن أيضاً بوعيٍ لاذعٍ من طردِ بذورها قبلَ الأوانِ. ومن الأنماط المهمة التي رصدها الكتاب نمط قصيدة المجاز الممتدّ أوالمهيمن وهو ببساطة مجاز مسحوب على معظم أو كلّ قصيدة، بحيث يسمح للشاعر بعقد مقارنة أو معادلة مبدئية ترجّع صداه فيما وراء السيطرة على تداعي المعاني الأصليّ. أما نمط قصيدة التأمل فهو يشبه قصائدَ المجاز الممتدّ/ المهيمن وقصيدةَ الصورة المركزية/ الموضوع المركزيّ في أنها تميل لأن تدور حول فكرة مركزيّةٍ، ذكرَى، أو مادة تتقلّب أكثر من مرة في عقل المتحدّث. كما تميل لأن تكون نمطاً أكثر حميمية، لأن قصيدة التأمل تبدو غالباً كأفكار خاصة للشاعرعن نفسه أو نفسها. واخترنا من هذا النمط قصيدة صورة شخصية (الركوع) للشاعر بريان جونسن والتي يقول فيها : أصلّي أن أواصلَ حبّ المتشابهاتِ. حين تصبحُ الصخورُ حلَماتٍ بشريةً، يصبحُ القمحُ العمودَ الفِقَريّ للسمكِ، والشجرُ عائلةً من ملوكِ الخشبِ، وقطارُ إسطنبولَ يصلُ عندَ الظهرِ، في زيّ عروسٍ، فلا ينتابني استفهامٌ. ومن الأنماط المهمة في صياغات قصيدة النثر قصيدة الومضة وهي ومضةُ نورٍ مباغت أو برقٌ يضيءُ لوهلةٍ، وهي أيضا أخبارٌ موجزة. يتحدّثُ الوصف الأول عن مباغتةِ قصيدة الومضة، فهي محكومةٌ بالإيجازِ لكن ينجزها غالباً تغيرٌ خاطف من التوجيهِ نحو تخليق الدهشةِ. أما الوصف الثاني فيتحدّثُ عن أنها تُكتَب بنثرٍ مسطّحٍ مقبولٍ . توظَّف قصائدُ هذا النمطِ كلقطاتٍ فوتوغرافية تُفرِزُ صورةً صعبةَ المحوِ، تُرجّع صداها مع القارئ فترةً أطولَ، بعدَ القراءةٍ الأولى. تقول الشاعرة جانيت كابلان في قصيدتها "نظرية بسيطة" آلةٌ تُسمَّى الكونَ تعرفُ عن نفسها ما تعرفهُ حالياً، ليسَ أكثر. بعيداً عن وثبتها، تنفخُ فقّاعاتٍ وحريصةٌ ألاّ تتخطّى ساعةَ اللهِ. وعن نمط قصيدة التصوير السورياليّ يقول الكتاب :عندما نشر أندريه بروتون "بيان السوريالية" 1924،فإنه لم يشكّل فحسبُ الحركةَ السوريالية بل أسهم أيضاً في أن تصبح إحدى التأثيرات المركزية لا في قصيدة النثر فقط بل في الثقافة عامة بالقرن العشرين. وكان التأثير ملموساً في الشِعر والنثر بحدٍّ سواء، لكن قصيدة النثر ظلّت القناة المثالية لتضمينات السوريالية الفلسفية المبهمة. وتعد قصيدة "للجحيم تدرّجات" للشاعرالفرنسي ماكس جاكوب، وهواحد الاصوات القليلة في الكتاب من خارج الولاياتالمتحدة ، نموذجا جيدا لهذا النمط من القصائد يقول جاكوب في قصيدته : جرّبتُ وأنا أعملُ في "التعاونيةِ للأزياءِ"، معَ العينِ الساهرةِ للخادمةِ العجوزِ الدميمةِ السوداءِ، أن أسرقَ حمّالَةَ بنطلونٍ. تعقّبتُ تلكَ السلالمَ الفخمةَ لا للسَرِقةِ، بل لأني عاملٌ كسولٌ، يكرهُ الأناقةَ المبهرَجةَ. إن تهبط، يتّبعوكَ. السلالمُ أقلّ جمالاً تحتَ، جنبَ المكاتبِ، عمّا في النطاقِ العامّ. أقلّ جمالاً في الشحنِ والتسليمِ عنها في صعيدِ المكاتبِ. وفي القبوِ الأقلّ جمالاً! لكن، ماذا أقولُ عمّا وقعتُ فيهِ من مستنقعٍ؟ عن الضحكِ؟ عمّا أَمسّهُ من حيواناتٍ؟ وحفيفُ ما لا أراهُ؟ يستحيلُ الماءُ ناراً، وخوفي عتمةً. وصلتُ، فكنتُ بينَ يدَي جرّاحِينَ صامتِين مجهولِين. واختار الكاتبان قصيدة بورخيس وأنا للشاعرالأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس كنموذج لنمط قصيدة المناجاة .. والمناجاةُ حديثٌ. وكما في مناجاة