الاعتراف بالذنب فضيلة.. لا شك فى ذلك.. والإعتذار عن الخطأ شجاعة.. لا جدال فى ذلك.. وفى أحيان كثيرة يمسح الاعتذار آلام الضحية بل رغبتها فى الانتقام، وذلك أمر جيد من أجل تحقيق سلام المجتمعات.. ومن المؤكد أنه لا يوجد شخص معصوم من الخطأ، وأن أفضل المخطئين هم أولئك التائبون عن خطئهم، ولكن يجب أن تكون التوبة نصوحاً حتى تكون مقبولة.. والتوبة النصوح فى أبسط تعريف لها هى تلك التوبة التى تقر بالخطأ مع النية الصادقة فى عدم تكراره، وبالتالى فان التوبة عن خطأ متكرر ومتعمد لا يمكن وصفها بذلك الوصف، وإنما يمكن اعتبارها نوعاً من «الضحك على الذقون» بل تكون التوبة فى هذه الحالة خطأ أبشع من الخطأ الأصلى لأنها تتضمن خداع الضحية بالاعتذار عن الخطأ مع ثبات النية على تكراره . الاعتذار يعنى اعترافاً بخطأ، والخطأ يعنى وقوع ضرر، والضرر له شقان: شق معنوى وشق مادي، وقد يعالج الاعتذار جزءاً من الشق المعنوي، ولكن ماذا عن شقه المادي؟، إن أفراد الجماعة الذين ارتكبوا بعض الحماقات وأعمال القتل والتدمير، يجب توقيع أقصى العقوبات عليهم، إلا أن ذلك وحده لا يعد فى التطبيق القانونى الصحيح تحقيقاً للعدالة، لأن هؤلاء الأفراد مجرد تابعين لقادة ومسئولية المتبوع أشد من مسئولية التابع، ومن ناحية أخرى فان هؤلاء القادة يتبعون مرشدا ومكتب إرشاد تتركز فى يده المسئوليات كلها، ولا شك أن الجرائم التى تم ارتكابها تستدعى ليس فقط محاسبة الأفراد وإنما وهو الأهم محاسبة كل من هم فى تسلسل القيادة إلى أعلى مستوياتها، وكذلك يتطلب استيفاء الشق المادى تعويضاً مادياً لضحايا هذه الجرائم يتناسب بدوره مع حجمها . إذا ما توافرت كل الشروط السابقة ، فاننى أثق فى أن طبيعة الشعب المصرى المسامحة سوف تصفح وتفتح الطريق مرة أخرى أمام التائبين للعودة إلى الصفوف مواطنين صالحين لهم ما لكل مواطن من حقوق، وعليهم ما على كل مواطن من واجبات . لقد تذكرت وأنا أكتب هذا المقال موقفاً عشته شخصياً، وكان الخصم فيه عدواً حقيقياً، ففى أثناء حرب رمضان عام 1973، كنت ضمن القوات التى حاصرت النقطة القوية فى لسان بورتوفيق حتى استسلمت قوات العدو، وأتذكر أن عدد من تم أسرهم كان 37 أسيراً من بينهم بعض الجرحي، وأتذكر جريحاً منهم بالذات كان شاباً أشقر مصاباً بطلقة فى عنقه مما اضطر العدو إلى أن يجرى جراحة ميدانية له وتم تركيب جهاز يساعده على التنفس، ورغم أن جثث رجالنا كانت لا تزال طافية على سطح قناة السويس، ورغم ما لاقيناه على يد العدو الإسرائيلى ، فاننى أشهد بأننا تعاملنا مع هؤلاء الأسرى بأرقى مستوى حضاري، بل أننى عندما كنت أسمع صرخات التأوه من ذلك الشاب الأشقر كنت أتألم من أجله، وقمنا باستدعاء طبيب مصرى لعلاج النزيف الذى كان يعانيه فى عنقه.. لقد شعرت آنذاك أننى أمام إنسان يتألم، إنسان لم يعد عدواً فى اللحظة التى ألقى فيها سلاحه واستسلم ، وكان شعورى طبيعياً تماماً، فهو شعور تربينا عليه وتعلمناه فى ديننا ومدارسنا حتى صار جزءاً من طبيعتنا... ولذلك لا أفهم تلك الصور السادية التى تحملها بعض البرامج على شاشات التليفزيون، والتى تطالب بسحق ومحو كل أفراد جماعة الإخوان المسلمين، ولقد كتبت قبل ذلك عدة مرات بأن ذلك نوع من «المكارثية» و «محاكم التفتيش» التى تأباها الطبيعة المصرية ، ولا يمكن السماح باستفحالها كى تتحول إلى وحش يلتهم نفسه فى النهاية .. وربما يعتبر البعض أن هذا الاعتذار ، إذا جاء، سيكون متأخراً وقليلاً جداً (Too little Too late)، إلا أن شجاعة الاعتذار عن الخطأ يجب أن تحسب للمخطئ كما أسلفنا، ويبقى أن أضيف أن «المصالحة» تتطلب بالتأكيد ما هو أكثر من مجرد الاعتذار، كما لا يكفيها ادعاء المراجعة ، والأمر فى النهاية يتطلب جهداً حقيقياً من الطرفين ، حيث ينبغى للقيادات الواعية من جماعة الإخوان المسلمين (ومن لف لفهم) أن تعلن بوضوح إدانتها لكل عمليات العنف والتدمير، واستعدادها لتعويض ضحايا الإرهاب، وقبولها فى نفس الوقت بتولى القضاء المصرى محاكمة كل من ثبت تورطه فى تلك الجرائم، واعترافها الذى لا لبس فيه بالوضع الدستورى القائم، ومن ناحية أخرى ينبغى على المجتمع أن ينأى بنفسه عن ثقافة الكراهية ، وأن يبدى استعداداً صادقاً للقبول بعودة الشياه الضالة إلى الحظيرة بالشروط السابقة، وأن تتوقف على الفور الحملات الإعلامية والدعائية بين الطرفين لشيطنة كل طرف للطرف الآخر، وأن نطوى صفحة الانقسام التى لم تعرفها مصر بهذا الشكل فى تاريخها، حتى لا نسمح لأعداء الوطن بالتسلل من شقوق هذا الانقسام . وأخيراً، قد لا يروق هذا المقال للبعض على الجانبين، ولكننى أرجو من الجميع أن يتدبروا الأمر بحكمة قبل فوات الأوان، فلا يصح أن يتصور أحد أن سياسات القمع والقوة يمكن لها أن تحسم خلافاً سياسياً فكرياً، كما لا يعقل أن يحارب قادة الإخوان المجتمع المصرى كله باستخدام شباب غض طاهر وقع بين سندان فكر الجماعة الجامد ومطرقة بعض النخب التى تخرب المجتمع بادعاءات زائفة عن الوطنية وحماية الدولة، وليس لدى شك أنه يوجد فى الطرفين رجل رشيد على الأقل !! لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق