خلص مقال الأسبوع الماضي إلى أن الإعلام الرشيد والإسلام السديد: يتفقان، ويتطابقان، ولا يتناقضان أو يتعارضان.. الأمر الذي يؤكده تناول عدد من الظواهر الإعلامية، ووضعها على محك المعايير الإسلامية. ونبدأ اليوم بظاهرتي:الحكم على نيات الناس وبواطنهم، والوقوع في فخ تصنيفهم. أولاً: الحكم على النيات حثت آيات قرآنية عدة على ضرورة تجنب الحكم على النيات، والتفتيش قي الضمائر، داعية إلى التعامل مع الآخرين من منطلق براءة الذمة والسلامة الظاهرة، باعتبار أن "اليقين لا يزول بالشك"، كما قال الفقهاء. وتبين الآيات أن الناس سواء في خفاء السرائر، وأنهم يتساوون في ذلك مع الأنبياء والرسل، وأنه لا يصح في هذا الصدد أن يميز الأنبياء والرسل أنفسهم على بقية الناس بنقاء السريرة، أو صفاء الباطن. قال تعالى: "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ". (سبأ: 24). إن نيات الناس أمور خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالتالي: لا يُحكم على أي شخص سوى بحسب ما يظهر منه فقط.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى". وفي صحيح البخاري أن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كان في بعث لرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ، "فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟"، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ". وكذلك ورد في صحيح مسلم أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ". ثانيًا: تصنيف الناس قال شاعر: إذَا سَاءَ فعْلُ المرءِ ساءتْ ظنُونُه.. وصدَّقَ ما يعتاده مِنْ توَّهم. يعني تصنيف الناس تقسيمهم بحسب أوصاف وأسماء نطلقها عليهم، بسبب أفكارهم أو توجهاتهم أو عقائدهم أو أفكارهم أو انتماءاتهم العرقية أو الجغرافية.. تقسيمات تقوم على الشك بالآخرين، وعدم الثقة فيهم، في محاكم تفتيش قلبية، وثكنات تجسس عقلية، ومشانق فكرية منصوبة لهم، بزخرف القول، وفاسد التبرير، مع أنه لا حكم على الناس إلا ببينة مؤكدة. قال تعالى :"وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ."(الزخرف). أما الظنون والوساوس والأوهام فهي تليق بمرضى النفوس، فقراء القيم، خاويي الضمائر.. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ".(الحجرات: 12). لكن للأسف، فشا بين الناس مرض تصنيفهم، فهذا متشدد، وذاك منحل، وهذا صوفي، وذاك وهابي، وهذا تغريبي، وذاك راديكالي.. إلخ. والواقع أنه لولا هذه التصنيفات التي تنغص علينا حياتنا؛ لما انقسمت أمتنا هذا الانقسام المريع، ولما عانت من هذا الفشل الذريع، ولكنا أكثر تجانسا ووداً، فالأمة بخير، وكما قال إيليا أبو ماضي: "كن جميلا ترى الوجود جميلا". ومن هنا حذرنا الله تعالى أشد التحذير من الوقوع في هذا الخطأ بل الخطيئة.. إذ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".".(الحجرات: 6). وقال سبحانه: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ".(النور: 15). وقال عَز مِن قائل: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى". (المائدة: 8). كما قال سبحانه: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ"؛ أي: "كنتم خير الناس للناس". (آل عمران:110). هذا عن تصنيف الناس القائم على الهمز واللمز، والغمز والظلم.. أما التصنيف القائم على القسط والعدل، وبحسب اعتقاداتهم وأعمالهم، لإنزال كل منهم منزلته، فهذا ثابت شرعاً، وواقع فعلاً. قال تعالى: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ". وقال سبحانه: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ". وقال سبحانه: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ". وقال تعالى أيضاً: "لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى". وهكذا: لا يستوي المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي، والغافل والطائع، وحتى الأنبياء والرسل، فالكل: مراتب، ودرجات.. وكذلك: الكفر والكفار، والنفاق والمنافقون، والشرك والمشركون: مراتب، ودرجات، في تصنيفهم، وتقسيمهم.. كما أنبأنا القرآن الكريم، والسنة المطهرة.. المهم: العدل والإنصاف، وإصابة الحق، وعدم الظلم والحيف والانحياز والمحاباة . [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد