في مشهد يشبه مسلسلات العنف الأمريكية فتح مجموعة من البلطجية ومنهم قصّر- يوم الاثنين الماضي- النار دون تمييز على رواد مقهى في شارع من أكبر الشوارع التجارية في مصر,هو شارع الملك فيصل. فقتلوا اثنين, وأصابوا ثلاثين آخرين معظمهم من خريجي الهندسة والطب والصيدلة منتظري الخدمة العسكرية! ذهب بهم ذووهم إلى أقرب المستشفيات إلى مكان الحادث, ومنها مستشفى الهرم. لم ينظر هؤلاء "البلطجية" -الطليقون حتى الآن- إلى وجوه من صوبوا أسلحتهم إليهم, لم يعرفوهم, أو يتعرفوا عليهم, ولم يشهدوا أيضا آلام أهلهم ودموعهم, ولم يعرفوا حجم المعاناة التي كابدوها في المستشفى من إهمال, وسوء معاملة, وصدأ معدات وأجهزة, وحشرات زاحفة, وتلوث, وصلافة تمريضية, وغرف وأجنحة أكثر ما توصف به أنها لا تصلح للاستخدام الآدمي, لولا السلوك الإنساني لمدير المستشفى ولعدد من الأطباء لأصبح الوضع أكثر مأساويًّة! . ابني واحدٌ من هؤلاء المصابين, كان النور مقطوعًا عن منطقة الهرم للمرة الرابعة في هذا اليوم, حين بُلّغتُ الخبر, ذهبت مضطربًا إلى المستشفى, لأجد عشرات المصابين في كلّ مكان, وفي هذه الأثناء قابلني أحد الآباء ممن أصيب ولده بطلق في وجهه, وبادرني بقوله حين عرف أن ابني ممن أصيبوا, وأن إصابته أشد, وكأنه يواسيني؛ لقد دفعتني إصابة ابني إلى أن أعيد موقفي تجاه القتل العشوائي الذي يقوم به اليهود في فلسطينوغزة, هكذا جاء تعبيره التلقائي, دون تدبير أو تمعن, كانت في عينيه عبرات مخنوقة وهو يقول بأنه بات يتفهم الوضع الفلسطيني في غزة الآن أكثر, وقد عاين وجهًا لوجه –مع اختلاف الوضع والموقف- اعتداءات يُقتَل فيها أناسٌ لا يعرفون قاتليهم, فابنه يرقد مع ابني في المستشفى نفسه بسبب بلطجية فتحوا النار على آمنيين لا ذنب لهم, إلا غياب دور الرقابة الشرطية على هذه الأماكن, وتراخي عدد من المسئولين في القبض على هؤلاء المجرمين, وعلى آمنيين لا ذنب لهم إلا تصديقهم أن الأجهزة تقوم بواجباتها, وأن مستشفياتنا تحت رقابة طبية جيدة! أما السكوت عن هؤلاء فجريمة في حق المجتمع, لأنه سيشجعهم وأمثالهم على تكرارها دون رادع, وسيشجع أيضًا الأهالي على الدخول في حرب عصابات, بين معتد ومنتقم, بين قاتل وصاحب ثأر. هذه الأحداث الموجعة, ومن قبلها العمليات الإرهابية التي استهدفت جنودنا في سيناء وغيرها, ذكرتني بمقولة؛ "إن المعتدي في الحرب يقتل أناسًا لا يعرفهم!", هذه هي حال فلسطين الآن, وهذا هو عمل آلة الدمار الصهيونية العنصرية في غزة. ففي ظل معارك بين أبناء الوطن الواحد! وأحداث مركبة وعسيرة مرت بها المنطقة العربية في سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا والجزائر والبحرين وغيرها, كانت المقاومة الفلسطينة بفصائلها كافة تملك البوصلة الصحيحة في كفاحها المشروع لفك الحصار عن الشعب الفلسطيني –هذا الحصار الذي استمر ست سنوات متصلة- حصار غاشم عزلها عن العالم في ظروف غير إنسانية, أصبحت فيها أرواح الفلسطينيين وأملاكهم, ومقدراتهم, ومدارسهم, ومساجدهم, ومستشفياتهم ومتنزهاتهم, وبيوتهم, ومقابرهم, وأحلامهم أيضًا, أهدافًا رخيصة أمام آلة الدمار الصهيوني, حتى أصبح الشعار الفلسطيني لأهل غزة الآن –قبل الهدنة وربما يكون بعدها- هو؛ "الموت أفضل لنا من هذه الحياة", ذلك لأنه لا يملك أحد أن يساوم على حق آخر في الماء, والغذاء, والسكن, والعلاج, باختصار لا أحد يملك أن يساوم على حق شعب في الحياة!. وسط هذه الأحداث المتسارعة تضامن عدة مئات من الانتلجانسيا المصرية –ولا أقول النخبة- من الشعراء, والأكاديميين, والروائيين, والنقاد, والإعلاميين, والصحفيين, فضلاً عن وزراء سابقين, وأعضاء من لجنة الخمسين, وسياسيين, مع كفاح الشعب الفلسطيني في غزة, معلنين -في بيان لهم- انحيازهم الكامل إلى كفاح فصائل المقاومة الفلسطينية لفك هذا الحصار الظالم, مؤكدين أن "القضية الفلسطينية هي قضية عربية في الأساس", وأن مجازر آلة القتل الصهيونية "قد خرقت كلّ الاتفاقيات الدولية وعلى رأسها اتفاقيات جنيف ولاهاي", خصوصًا المواد التي نصّت عليها اتفاقية جنيف الرابعة عام (1949) م بشأن حماية المدنيين في زمن الحرب. كما طالب المثقفون في بيانهم "قيادات الفصائل الفلسطينية كافة, بمختلف توجهاتها, بالتمسك بلحمة وحدتهم الوطنية", وتوجهوا بأشد ألفاظ الإدانة إلى "موقف مجلس الأمن المتراخي, مؤكدين أن الموقف الرسمي الغربي وعلى رأسه الموقف الأمريكي هو موقف مشين, يلطخ تاريخ الشعب الأمريكي, ويلوث صفحات تاريخ الشعوب الأوروبية صاحبة الثورات العظيمة في التاريخ". وطالب البيان الأنظمة العربية باتخاذ مواقف مسئولة, "مثل المواقف الرادعة والمشرفة التي اتخذتها دول أمريكا اللاتينية دعمًا للمطالب المشروعة للشعب الفلسطيني", فقد اجتمع بعد عدوان الكيان الصهيوني على غزة رؤساء خمس دول من دول أمريكا اللاتينية هي البرازيل, والأورغواي, وفنزويلا, والأرجنتين, وبوليفيا في قمة لاتينية قرروا فيها استدعاء سفرائهم من تل أبيب, هذا فضلا عن مواقف السلفادور, وتشيلي, وبيرو, والأكوادور من قبل. ولم يقف الأمر عند هذا الحد, فقد أسقطت رئيسة الأرجنتين الجنسية الأرجنتينية عن منتسبي الجيش الإسرائيلي من حملة الجنسية المزدوجة, بسبب مشاركتهم في المجازر الإرهابية على الشعب الفلسطيني, كما قطعت تشيلي تجارتها مع إسرائيل احتجاجًا على مجازر غزة, وفتحت أورجواي سفارة لها في فلسطين. وأصبح إيفو موراليس، رئيس بوليفيا، أول رئيس دولة يعلن تأييده لحركة مقاطعة إسرائيل, وسحب الاستثمارات منها, وفرض العقوبات عليها. من جهة أخرى أصدر البرلمان الباكستاني في الشهر الجاري قرارًا بإجماع أعضائه واصفًا ما يحدث في غزة بأنه "جرائم حرب وإبادة جماعية", وفي أوروبا استقالت الوزيرة البريطانية ورئيسة حزب المحافظين السابقة من الحكومة بسبب دعمها لإسرائيل, في الوقت الذي شهدنا فيه خروج مظاهرات كثيفة في عدد كبير من العواصم الأوروبية مثل باريس وأمستردام ولندن وفيينا وبروكسل وبلفاست, ترفع العلم الفلسطيني, وتدين العدوان الإسرائيلي, وفي بادرة مسئولة وراقية ينزل ملك السويد والملكة إلى الشارع "بالكوفية" الفلسطينية للتضامن مع غزة, كما امتدت المظاهرات إلى مدن أمريكية مثل مدينة نيويورك, وفي أستراليا أيضًا, تم شجب العدوان برغم حكومتها اليمينية, وأعلنت اسبانيا تعليقاً "مؤقتاً" للصادرات العسكرية إلى إسرائيل. بل إن شبانًا في احتياطي جيش الدفاع الإسرائيلي رفضوا الخدمة, ووجهوا إدانة واضحة إلى الحرب على غزة. كما اتهم كيري نيتانياهو “بالعناد وعدم الفهم”, حتى وزير خارجية بريطانيا حذر إسرائيل من "فقدانها دعم الغرب لها”. ولم يقف التضامن مع غزة عند هذا الحد, بل وقع عشرات الآلاف من الأكاديميين بيانات متلاحقة تشجب العدوان الإسرائيلي على غزة. كما أدانت العدوان في عبارات واضحة وقاسية أيقونات علمية وفكرية وسياسية وفنية كبيرة مثل البروفسور نعوم تشومسكي، وفيديل كاسترو, وأنجلينا جولي, وروبرت دي نيرو, وداستن هوفمان, وغيرهم. هذه المؤشرات تؤكد تغير الموقف الدولي بعامة والغربي الرسمي بخاصة -على نحو إيجابي- تجاه الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك موقف الشعوب الغربيةوالأمريكية التي اعتادت الوقوف مع الكيان الصهيوني.. وللكتابة بقية..