يعتبر الجيل الذي أنتمي اليه، من خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، في اوائل الثمانينيات من القرن الماضي؛ جيلا محظوظا، لانه تعلم على رواد المدرسة المصرية في الاقتصاد والسياسة، أولئك الذين تشكلت مداركهم وعقولهم في العهد الملكي بكل عمق وتنوع بيئته العلمية، وزخم وثراء تجربته السياسية، ثم شاركوا - من مواقع مختلفة - في بناء مصر الثورة في الخمسينيات والستينيات، وكانوا شهوداً على تحولات عصر السادات الدراماتيكية. هذا الجيل الفريد من الأساتذة العظام لم يتكرر زماناً ولا مكاناً؛والمثال الوحيد لجيل مشابه كان في الولاياتالمتحدةالامريكية؛ بعد الحرب العالمية الثانية، حينما هاجر إليها علماء السياسية والاقتصاد الألمان الذين عاصروا ثلاث مراحل تاريخية امتدت من قبل النازية إلى ما بعدها. رحم الله العميد الدكتور رفعت المحجوب، كان يقولها بكل حزم إن نصفَ عالمٍ هو نصفُ جاهلٍ، مؤكدا حقيقة منطقية، ومحذراً من مخالفتها، أن العلم لا يمكن تبعيضه،ولا يمكن تجزئته، أو القناعة ببعض المعلومات وادعاء العلم في موضوعها، أي أنك لا تستطيع ان تزعم العلم بالشئ وأنت غير محيط به بصورة تامة، لأن الجزء الناقص من العلم بالموضوع يملؤه الجهل، فتكون نصفَ عالمٍ…نصفَ جاهلٍ، وليتك كنت جاهلا كاملا، لأن الجاهل الكامل أفضل كثيراً من نصف الجاهل، الذي وصفه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه شر ينبغي الحذر منه حين قال وجاهل يظن أنه عالم، هذا شر فاحذروه. وإذا نظرنا في المشهد السياسي والثقافي والإعلامي.. المصري والعربي.. إلخ سنجد أنه يهيمن عليه مجموعات من الأنصاف: أنصاف السياسيين، وأنصاف المثقفين، وأنصاف الإعلاميين، ….الخ، وهؤلاء الأنصاف مملوءون بقناعات كلية مطلقة، أنهم كاملون كمالاً لم يدعه نبي، ولا فيلسوف، ولا مفكر على مر التاريخ البشري، لأن نصف الجاهل في نفوسهم يدفعهم الى الغرور والتعالي والادعاء، هذه الحالة تقود العرب عامة والمصريين خاصة إلى مزيد من التدهور، والانحطاط الحضاري، والتخلف السياسي والاقتصادي، وضياع الأمل. ولننظر في المشاهد الآتية في مختلف المجالات، والاقطار العربية: 1- قادة كل الحركات التي تسمي نفسها الجهادية من طالبان إلى بوكوحرام، مرور بداعش وأنصار الشريعة وبيت المقدس…الخ، الذين يعرفون طرفاً من تاريخ الإسلام، و بعضا من فقه الجهاد، والولاء والبراء، ويجهلون تعقيدات الواقع المعاصر، وموقع المسلمين فيه، واختلاف حال المسلمين، وتحولهم من دولة عظمى في ذلك الزمان البعيد إلى دويلات صغيرة، وزنها ضعيف في معادلة القوى الدولية في هذا العصر، وعندما يجهلون أن أحكام فقه عصر القوة والسيادة والدولة العظمى لا يصلح أن يتم استدعاؤها، أوتطبيقها في فترات الضعف والتفكك، وتغير موازين القوى، عندما يحدث هذا فإننا أمام حالة: نصف عالم …نصف جاهل. 2-الطبقة الحاكمة في العراق، من السياسيين ومن يدعمهم من علماء الدين، حينما تستدعي كل مرارات مأساة الحسين رضي الله عنه، وعن أبيه، وعن ذريته، أو تتخيل أنها تعيش صراع الصفويين مع العثمانيين، وترسم سياسات واختيارات استراتيجية تأسيسا على هذه الحالة التاريخية، وتغفل تماما معادلات القوى الإقليمية، ووجود الكيان الصهيوني في فلسطين، وتغفل كذلك المعادلات الدولية بكل تعقيداتها، وتقود العراق الى التفكك، والاحتراب الأهلي، والإرهاب، والدمار الشامل، فإننا أمام نموذج من نصف عالم.. نصف جاهل. 3- قادة حركة حماس في الداخل والخارج، يدركون عمق قضية فلسطين في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، ويعلمون مدى تأثير الدم الفلسطيني على مشاعر العرب والمسلمين وأحرار العالم، ويحيطون بتعقيدات المشهد الداخلي الفلسطيني، وتعلموا جيدا تجربة حزب الله، ويحاولون استنساخها، ولكنهم حينما يغفلون أو يتغافلون عن محورية الدور المصري في فلسطين، ويتعاملون معه من خلال العدسات الإخوانية الملتصقة بعيونهم، ويعتقدون أن شركة قطر ممكن أن تحل محل مصر في الصراع العربي الإسرائيلي، ويغفلون عن تعقيدات السياسة الدولية، والرأي العام الغربي الذي يقود المنظومة الدولية بكل مؤسساتها، ويغفلون أو يجهلون أن دموع يهودي أكثر تأثيرا في المجتمع الدولي من دماء كل العرب، هنا نحن أمام مشهد متكامل من : نصف عالم.. نصف جاهل. 4-الاعلاميون في مصر يعلمون جيدا ما ارتكبته حركة حماس، وفصائل اسلامية أخرى في فلسطين من جرائم في حق مصر والمصريين انتصاراً للاخوان، أو دفاعاً عنهم، ويعلمون أيضا ما تقوم به قيادات حركة حماس في قطر، وإعلامها في قطاع غزة ولندن من تآمر على أمن مصر واستقرارها، ويؤلمهم خيانة حركة حماس لمصر ونكرانها لكل ما قدمته للقضية الفلسطينية ولهم، ولكن حينما يجهلون أن العدو التاريخي والاستراتيجي والوجودي لمصر هو إسرائيل، وأن تهديد الأمن القومي لمصر يأتي من إسرائيل، وليس من قبيلة حماس، أو شركة قطر، وحينما يظنون أن تدمير اسرائيل لقدرات حماس، ولقطاع غزة من الممكن أن يحقق أمن مصر أو مصالحها، في هذه الحالة نحن أمام نموذج صارخ ومزعج من : نصف عالم.. نصف جاهل. 5-المثقفون والفنانون الليبراليون أو اليساريون في مصر وغيرها، يعلمون جيدا خطورة الشعارات الدينية - التي ترفعها الحركات السياسية المنتسبة شكلا إلى الإسلام - على الفن والإبداع وحرية الإنسان بصفة عامة، والتجربة العملية اثبتت أنهم على حق، ويدركون أيضا أن رفع الشعارات الدينية في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الأمية يمثل تهديدا لوجودهم، ويدفعهم قسراً للتخلي عن حرياتهم، وحبس ابداعاتهم، ويدركون أيضا أن التخلص من هذه الجماعات والشعارات فيه مصلحة وجودية لهم، ولكن حينما يتجرأون على الدين ذاته، وعلى قيمه وأحكامه، وحينما يتصادمون بكل وقاحة مع ثقافة المجتمع، ومفاهيم العيب والحرام فيها، ويسعون لتعميم سلوكيات شاذة ومنحرفة، ويقدمونها على أنها سلوكيات وطرائق عيش مطلوب الاقتداء بها تحت عناونين الحداثة، والتقدم والتطور، ومقاومة الرجعية، والظلامية، والتخلف، هنا يقول لهم أستاذنا المرحوم رفعت المحجوب: انتم انصاف علماء.. أنصاف جهلاء. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف