قبل أن يرفع آذان الفجر من مآذن الحى المتباينة فى مواقعها كانوا قد تجمعوا كعادتهم كل ليلة عند زاوية المبنى الإداري، يقف بعضهم ويجلس اثنان منهم على مقدمة إحدى السيارات، ويتبادلون المواقع عبر جلسة سمرهم. تعلو أصواتهم فى موجات متتالية من الضحك الهيستيرى. أميز بين ضحكاتهم ضحكة خليعة توحى أن جلسة الليلة تضم فتاة ساقطة فلما تتكرر أتبين أنها لواحد منهم!! ويبدو أن دوره يقتصر على إطلاق هذه الضحكات الخليعة ل«تسخين» الجلسة!! فى الخلفية، عند أطراف الحديقة تمارس جماعات من الكلاب والقطط أعمالها فى فحص أكوام القمامة. يختلفون على الأنصبة، يتشاجرون فيعلو وسطهم مواء أو نباح حازم فسرعان ما يتوافقون، فالقمامة كثيرة والخير وفير يكفى الجميع ولا داعٍ للشجار. يستمر رغم ذلك المواء والنباح متقطعا ومتزامنا مع جلسة السمر المنعقدة فى المقدمة!! يصمتون فجاة وينفلت من بين سحابات ضباب صمتهم صوت خافت يسيطر عليهم لدقائق تليها ضحكات أكثر جنونا وهيستيرية، يبدو أن صاحب الصوت كان يحكى لهم حكاية قذرة تؤرخ لمغامراته وغزواته ‹المتخيلة› فى ‹بلاد› الجنس الآخر، فلما أنصتوا اكتشفوا أنها ليست بالقذارة المطلوبة فعوضوا النقص بزيادة جرعة الهيستيريا فى الضحك. الآذان جميل وسلس، صوت المؤذن عذب، لابد أنه تسجيل من إذاعة القرآن الكريم. تقتحم أذنى بقايا كلمات من أطراف حوارهم.. والدها، أخوها، الكلب، عضو من أعضاء جسدها، الجورب، الحجرة، إضافة إلى تشكيلة متناثرة من ألفاظ سباب واضحة بعضها لا أفهمها لكن معظمها ينتهى بتاء التأنيث خاصة تلك التى أعتقد أنها تستهدف أمهات هؤلاء الشباب المتسامر. كان لهم نصيب من دعائى فى الفجر لكنهم، رغم ذلك، استمروا فى هزلهم. لا يهم، فجر غد لى موعد آخر معهم!! اقترب منهم رجل يتمشى متثاقلا ظننت أنه سيوبخهم لكنه انحرف يميناً قبل أن يصل اليهم واختفى داخل المبنى الإدارى، صَلَّيْتَ ركعتي السنة. نفس الآلية تتبع عند كل جولة من جولات الحوار.. الصمت ثم ارتفاع الضحك الهيستيرى المصاحب بحركات أكروباتية صبيانية حمقاء وغير مكتملة أو التصفيق بأكف واهنة فى حماس هيستيرى!! أقيمت الصلاة ولم يتوقف الضحك. عاد الرجل الذى اختفى فى المبنى الاداري وبدا الآن أنه كان يقضى حاجته فى إحدى دورات المياه العمومية بالمبنى. مر بهم بمشيته المتثاقلة فلم يلتفتوا إليه كأنه كلب ضال مر بحلقة سمرهم. أنهيت صلاة الفجر ووقفت خلف نافذتى المفتوحة فى تأهب لنسمات اليوم الجديد... إن هى إلا دقائق وتشرق الأرض بنور ربها. لم توبخهم، فى حدة، خشونة صوت ذكورى واحد تنطلق من أى نافذة من النوافذ المغلقة.. تأمرهم بالصمت والانصراف، غداً يوم عمل، اتقوا الله، أو ما ذنب التلاميذ الذين لديهم امتحانات فى الصباح ؟! كان الجو يغلب عليه بشكل عام حالة من السلام أو ما يطلقون هم عليه ‹بيس›، لولا صياحهم الصبيانى وضحكاتهم الهيستيرية وزئير أجهزة التكييف المتناثرة على مسافات مختلفة!! حيث أقف.. أراهم ولا يرونى، يغلب الإجهاد على أصواتهم، أبدأ فى ملاحظة الفروق بين نبرات أصواتهم وملابسهم. أتبين فى أصواتهم التى ما تزال تتشبث بصبيانيتها نبرة حزن تتبع كل موجة من موجات الضحك الهيستيرى، مضى وقت طويل بعد انقضاء الصلاة وبدا نور الصباح ينبلج. لن يكون فى انتظارهم أم منهكة قلقة تنظر من نافذتها كل دقيقة خوفا على مصير فلذة كبدها، أو أب قاهر مقهور متوعد، لن تفوتهم محاضرة مهمة لتلقى العلم أو يترقب وصولهم رئيس عمل يبتهج لتأخر أحدهم عن موعده ليمارس هوايته فى الخصم من مرتبه وكأنه المرابى شايلوك يقتطع رطلا من اللحم من جسد ضحيته كل يوم جديد. بعد دقائق قصيرة وإن طالت سيصبح جراب الضحك الهيستيرى خاويا، وكذلك تنفد كلمات السباب بكل صنوفها، ويتبخر الحماس للضحك المتعمد والابتسامات القسرية، حتى لفائف السجائر ستخفت جاذبيتها عندما يتعارك دخانها مع أحماض المعدة الخاوية التى هضمت ساندوتشات الفول والطعمية فى الصباح منذ ساعات، وتنتظر فى صمت أن ياتى المدد!! يظهر جامعو القمامة بعرباتهم الخشبية تجرها أسراب من الحمير، فتفر من أمامهم جماعات الكلاب والقطط، يتفحصون أكوام القمامة بعزم صارم، ينقسمون الى جماعات منظمة يفرزون القمامة الى أكوام زجاج وورق مقوى وبقايا طعام وبلاستك ومعدن، يفرغون أكياس القمامة من محتوياتها التى أوشكت على التعفن. يضعون ما يرونه مفيدا فى عرباتهم ويطرحون تجاه أحواض الحديقة ما ليس له قيمة، فيما تنتظر بعض القطط إنتهاء مهمة جامعى القمامة ومغادرتهم المكان لتستأنف بحثها عن رزقها، وآثر الكلاب السلامة فتقهقروا إلى الزاوية البعيدة من الحديقة وتشاغلوا بنباح ثرثار قتلا للوقت. يتناقص عددهم، تكركر عربة صاحب المكتبة فيما تقترب من المبنى الاداري، وتعلو كركرتها مع ازدياد اقترابها، يصفها أمامهم ويخرج منها هو وابنه الشاب لإفراغها من أكوام الجرائد الجديدة. يزحف الصمت ليحتل مساحات أكبر من الجلسة، يستيقظ فجأة صاحب الضحكات الخليعة ليطلق دفعة حديثة من ضحكاته فى محاولة يائسة لبث الحياة فى مغامرة مساء احتضر بالفعل. يتوافد حراس العقارات على المكتبة التى تراصت أمامها تلال الجرائد والمجلات تحمل فى فخر وادعاء أخبار الصباح الجديد فى حين أنها فى حقيقة أمرها أخبار انفجارات ومظاهرات ومسيرات وحملات انتخاب وسقوط شهداء وارتقائهم يوم مضى!! يتدافع بلا حياء أو كلل أمام صاحب المكتبة وابنه حراس العقارات فى معركة حقيقية للغنيمة بجرائد الصباح. أدار الليل ظهره لسماره الذين إثر إشعار خفى يهبون من جلستهم، يتمطعون، يتثاءبون، يقاومون عبثا سطوة انبلاج النور. يتوزع أغلبهم فى خطوات متثاقلة على سيارات تنتظرهم لتبتلعهم وتأخذهم فى رحلة العودة الى أماكن بعيدة أو إلى الناصية التالية! فى مكان ما فى بيت صامت ينتظرهم فراش شاغر ترقد عليه وسادة باردة وتحت حاشيته نسخة بالية من مجلة إباحية، منبه أبكم، صنبور رتيب، ريموت مهجور متبلد، شاحن ماكر يختبىء عن عمد، أطباق عشاء متسخة سبقتهم إليها حشرات المنزل فى حوض مطبخ يئن من أحماله. يعود حراس العقارات مظفرين يحملون غنائمهم، يتصفحونها على عجل قبل أن يصلوا إلى عقاراتهم فيجبرون عندئذ على تسليم الغنائم إلى أصحاب رؤوس الأموال قبل الاستمتاع بها ولو لثوان معدودة. يتجلى الصباح بكامل ضيائه فيختفي بقيتهم وكأنهم تبخروا فى هواء الصباح البارد الذى بدأت الشمس فى تسخينه فور ظهورها فى المشهد، أو كأن أحدهم قد أضاء نور ‹المطبخ› الكونى ففرت كل كائنات الليل الصغيرة إلى مخابئها !