طالب الراحل الكبير الأستاذ حافظ محمود بإصدار قانون للعيب في الذات الصحفية, يسمح للنقابة بالتدخل بقوة ضد المسيئين لشرف المهنة وللحفاظ علي أخلاقيات الصحافة, فقد وجد من حيث مكانته الصحفية كنقيب نقباء الصحفيين, ويحمل البطاقة رقم1 في نقابتهم, أن الأخلاق بقوتها الذاتية ليست بديلا عن القانون, ويجب أن يتم وضع ميثاق يحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المطلوبة مهنيا, ويلتزم بها القائمون عليها, بحيث تتكامل المسئولية الأخلاقية مع الأخري القانونية, للارتقاء بالمهنة ورسالتها ومثاليتها, ولم يجد هذا القانون طريقه للنور, فوجد فيه البعض حدا من حرية الصحافة, فربما لو صدر مثل هذا القانون لما انتشرت الصحافة الصفراء التي فتحت الباب للإعلام المنفلت بكل ألوانه, وتخلي أغلبه عن رسالته السامية, وأصبح أداة حربية دعائية في أيدي أهل العيب من أصحاب المصالح الصغري أو الكبري. كل مهنة ما لم يتفق أربابها علي مجموعة من الآداب والقيم التي تنظمها ضعفت, ويتراجع معها المجتمع الذي يضم طوائف مهنية شتي, يستمد من قوتها قوته, والإعلام هو صورة الوعي العام, وفاعل أساسي في تشكيله, لذا تمثل الأخلاق فيه جوهرا أساسيا في إصلاح المجتمع, يجب صيانتها بكل ما تستطيع من قوانين محايدة ملزمة حتي تستقر هذه القيم في الوجدان العام, وتطبع في الذاكرة الوطنية فيصبح الخارجون عليها محدودي الأثر مهما بلغت وقاحتهم فلا خوف مادام الحياء الأخلاقي ترسخت قواعده في مجتمع قوي لديه القدرة علي طرد من يتلاعب بمصالحه وقيمه بلا حياء, فإذا لم تخشي عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء. فلا والله فما في العيش خير ولا في الدنيا إذا ذهب الحياء. الحرية قيمة إنسانية, وصيانة هذه القيمة كمثل أعلي لمجتمع يرغب في التقدم, تقوم علي تأصيل قواعد والتزامات أخلاقية تجعل لهذه القيمة دورا في حماية المجتمع, لا هدمه, فعندما يتمكن أهل العيب من العمل بحرية دون رادع وحد إلزامي قانوني أو مهني يغل تخريبهم, تصبح قيمة الحرية سلبية تعرض المجتمع لخطر التفكك والانهيار, فقيمة الحرية تحمي الفرد من طغيان الأغلبية والدولة والنظام الاقتصادي الجائر, بضمان التعبير عن طموحاته ومصالحه, وتبلغ أهميتها القصوي عندما تترسخ في وجدان المجتمع لتحقيق التكامل والتوافق بين أفراده, فتصبح حقا للجميع, وهي لا تصبح كذلك إلا إذا قامت علي أسس أخلاقية تجعل الناس تضحي بمصالحها الخاصة في سبيل تدعيم هذه القيمة الإنسانية في المجتمع كله! وبعد أن كسرت العولمة احتكار السلطة الحاكمة للحريات والمعلومات والآراء كشفت الوضع الثقافي المحدود لمفهوم الحرية, فالحرية في نظر البعض هي حريته في التغول علي حرية الآخرين, بفرض مفاهيمه السياسية والاقتصادية والدينية علي أنها المثل الأعلي, والنموذج الذي يجب أن يتبعه الآخرون وإلا كان من الخونة أو الجهلة أو الكافرون, وأصبحت أسلحته في الحوار هي السب والقذف, وشر الناس من يهوي السباب, فذلك دليل علي ضعف مفهوم الحرية في المجتمع, فلا حرية بلا حوار بين تناقضات المجتمع, تحت مظلة الدولة التي قامت لتحمي الحريات وفق مفهوم أخلاقي إنساني عام, يكفل الحرية للجميع في إطار القانون الفيصل بين الناس, وتزامن إتاحة وسائل تعبير متعددة وواسعة الإطار وبلا قيود, مع ضعف للأنظمة العربية, نتيجة طول البقاء في السلطة, وما تبعه من إضعاف للمجتمع وقوته الإلزامية, فتوافرت وسائل حديثة للحرية دون عقاب لا قانوني ولا اجتماعي أخلاقي, فطغت لغة السب والقذف والاستهانة بالمصالح الوطنية, بل العمل بلا حياء علي تفكيك الدولة, وليس هذا إلا نتاجا طبيعيا لمجتمع لم يمارس الحرية إلا بالخروج علي القانون, لا بالاحتماء به وإرساء قواعده, فإن سب الندل في أهله.. فلا خير فيه ولا في أهله! فهم في الأساس من لم يفلح في التربية! يمر عالمنا العربي بمخاض التغيير الطبيعي لتتلاءم الأنظمة مع طبيعة العصر, الذي يتيح قدرا هائلا من المنتجات الحديثة التي تسمح وتوفر الحرية اللامحدودة, ومن الطبيعي أن تهز أركان الأنظمة الحاكمة التي استمرت علي حالها فترة أطول من القيم والمعايير التي تجسدها, وأصبح هناك تصورات وأفكار مغايرة قديمة وحديثة تعلن عن نفسها, وتسعي لتجد لها مكانا تحت الشمس, فترفض احتكار السلطة وأيضا الأفكار فلم يعد في مقدور أي طرف أن يطمئن علي أنه أفضل من يعبر عن مصالح ومعتقدات الآخرين, فأصبح الواقع يفرز مع مناخ الحرية المتوافر لاعبين جددا, وهي الحالة التي تخلق الإبداع الإيجابي لتفاعل الثقافات المختلفة بعضها مع بعض, لتوجد تصورات جماعية حديثة, تشكل نظما جديدة, تحظي بالوفاق العام, وهو الوضع الذي مكن التجربة الأمريكية من الاستمرار برغم التنوع الاجتماعي الشديد, لكن ضوابط الحرية هناك سيف مسلط علي رقبة كل من يعتدي علي حرية الآخرين, فالتغيير يحدث وفق أطر قانونية, تسمح باستمرار الوحدة الاجتماعية, وبرغم أن الحرية مفتوحة إلا أنها ليست كل شيء, فهناك مصالح حاكمة تجد الطريق لتنفيذها في إطار هذه الحرية, فلم يمنع تظاهر الملايين ضد غزو العراق من تدميرها, ولم تنجح مظاهرات احتلوا في تحويل اتجاه الرأسمالية المتوحشة قيد أنملة! عادة كل الجماعات الإنسانية من الطبيعي أن تحمل دافعا للتغيير, تتطلع إلي واقع أفضل وتحمل في المقابل دافعا للمحافظة علي النظام القديم وما يمثله, ليس فقط من مصالح, لكن أيضا من رؤي فكرية أو أيديولوجية, وتطرف أي من الطرفين يؤدي لانهيار المجتمع, الذي لا يستطيع أن يوجد ميكاينزمات الحفاظ علي البناء الاجتماعي بالتغيير المنتظم وفق قواعد واضحة للجميع, وفي عملية التحول التي تجري في مصر لم أقتنع أبدا بوسيلة الانتخابات بالقائمة التي مكنت تيارا واحدا من الانفراد بالأغلبية فالنظام الانتخابي سمح بالقوائم بمنافسة المستقلين والذين أعتقد أنهم الأكثر تعبيرا عن المجتمع المصري الذي يتميز بسيولة واندماج بين مكوناته, وأرغمته القوائم علي التصنيف, فعند اختيار قائمة معينة فوجئ الناس بشخصيات أبعد ما تكون عن التعبير عن الفكرة التي يؤمنون بها, فالنزعة الفردية أكثر تعبيرا عن حقيقة التوجهات العامة وأيضا اختار آخرون قوائم كرها في شخصيات مفروضة عليهم في قوائم أكثر تمثيلا لأفكارهم, وبرغم ذلك أشعر بالتفاؤل بقيام البرلمان الجديد بل أشفق عليه من تقييم الشعب لآدائه, فلم يعد التفويض مطلقا لأحد, ولن تسمح الحرية المتاحة للجميع بالتلاعب بمشاعر الناس بالنقد والتجريح للمسئولين دون تقييم جدي, وطرح بدائل عقلانية, وإلا تحول البرلمان إلي شعبيات لا تغني ولا تسمن من جوع! التحكم في مسار التغيير هدف سام, للحفاظ علي كيان المجتمع من أعدائه, الذين يتمتعون أيضا بالحرية في ظلها يبدعون هم أيضا, في الدعاية السياسية متعددة الأدوات, وتقوم علي الشعارات المبسطة المطلقة, وهي الحق الذي يراد به باطل, فأهل العيب لا تنقصهم لا الأدوات ولا الأموال ولا المواهب, للبس ثوب الثورجة الدائمة, الذي ارتداه شياطين النظام القديم لحماية مصالحهم بالتهديد بهدم المجتمع علي غرار المبدأ الشمشوني. التحكم في مسار التغيير الديمقراطي نحو الحرية المسئولة دور تاريخي قام به الجيش الوطني للحفاظ علي المجتمع ومصلحيه من نخب وطنية, عانت من شياطين النظام القديم الذين لم يعدموا الوسائل في محاربة ملائكته في ظل حرية لا مسئولة بلا قانون أو سلطة تقومها, بينما الجيش برغم بعض الأخطاء الواردة في المرحلة الانتقالية والسيولة الإعلامية بلا أدوات إعلامية تعضد موقفه المشرف في النهاية إلا الموقف القطري السليم للشعب المصري العظيم الذي لا يستجيب للإثارة والشعوبية, برغم اتهامه بالأمية, فلم يخطئ الطريق نحو الإصلاح ونحو الانتخابات, وحماية الجيش الوطني, فذلك الشعب هو من علمنا أن البحر لاينفذ فيه السحر, وان كان سحر الدعاية الكاذبة ومتعة الإثارة والتهييج وأحلام أهل العيب من المتحولين, من خدمة مشروع التوريث وما ترتب عليه من سياسات لفظها الشعب, إلي خدمة المنتفعين الكبار الذين يهمهم ذر الكثير من الغبار في وجوه الجميع بتحويل الانتباه وصرف الأنظار عن جرائمهم, بإثارة المشكلات الصغيرة الإجرائية أو طرح القضايا المطلقة كالحرية والعدالة... كأنها قطوف دانية سهلة المنال, فتزيد من الإحباطات ببخس الجهود التي تبذل للوقوف علي الطريق الصعب, الذي يحقق ما نتمناه علي أسس سليمة, ووسائل الدعاية لم تقصر في حملات التشوية حتي الورد لن يسلم من أهل العيب في مجتمع لم يضع القواعد الملزمة من زمن, حتي لا يصبح عيبهم مش عيب! فتصاب مصرنا الحبيبة بآلاف الجروح الصغيرة بافتعال الأزمات كما علمهم كبيرهم في زمن الآلام... ياحبيبتي يامصر! المزيد من مقالات وفاء محمود