إزدادت سخونة الجدل المشتعل فى المانيا منذ فترة حول جدوى التصعيد مع روسيا والمخاطرة بحرب إقتصادية معها فى حال فشلت الإنتخابات المقررة فى اوكرانيا غدا الاحد وتمسك برلين بفرض المرحلة الثالثة من العقوبات الأوروبية على موسكو .وتواجه المستشارة انجيلا ميركل ضغوطا داخلية متصاعدة، من قبل سياسيين داخل حزبها المسيحى الديموقراطى ومن جانب شريكها فى الإئتلاف الحاكم ، الحزب الإشتراكى الديموقراطي، للمراهنة على الحوار مع موسكو بدلا من التصعيد. فى الوقت نفسه كثفت الإتحادات الإقتصادية الألمانية وجماعات المصالح من حملتها الإعلامية واتصالاتها السياسية للحيلولة دون فرض هذه العقوبات المتوقع ان تسبب اضرارا بالغة للإقتصاد الالماني، فى ظل تحذيرات للمستشارة من الصين التى ستكون المستفيد الأول من حرب العقوبات على روسيا إذا بدأت. قد يبدو للمتابع لموقف الحكومة الالمانية الرسمى من الأزمة الأوكرانية أن المستشارة المحافظة انجيلا ميركل ووزير خارجيتها الإشتراكى شتاينماير يتبنيان خطابا تصعيديا تجاه موسكو والرئيس بوتين بسبب الانتقادات اللاذعة لطموحاته التوسعية وتدخله بما يهدد وحدة اوكرانيا والتهديد بإستعداد المانيا للتصعيد وسداد ثمن اى عقوبات إقتصادية سيتم فرضها على روسيا فى المرحلة الثالثة والمفترض ان تمس الشركات وليس فقط الأفراد وان تشمل قطاعات إقتصادية كاملة مثل قطاع الطاقة والقطاع المصرفى والمالى وصادرات الاسلحة وغيرها. غير انه فى واقع الأمر فإن الإتصالات الالمانية الروسية على جميع المستويات انتهاء بالخط الساخن بين ميركل وبوتين مستمرة سرا من اجل إحتواء الأزمة سياسيا. وتجد المستشارة الألمانية انجيلا ميركل نفسها مضطرة لذلك رغم كل التهديدات العلنية، بسبب الضغوط الداخلية فى المقام الأول. فإستطلاعات الرأى العام تشير إلى ان نحو 65 % من الالمان لا يتوقعون ان تؤدى لغة التهديدات او حتى العقوبات الإقتصادية على روسيا لحل للأزمة، بل أن نصف الالمان يتفهمون دوافع الرئيس الروسى فى التحرك دفاعا عن مصالح بلاده ومنع اى إستقطاب اوروبى لأوكرانيا. ومن داخل الإتحاد المسيحى الديموقراطى نفسه ارتفعت اصوات سياسيين بارزين مثل فيليب ميسفلدر مسؤل الشؤون الخارجية بالحزب لتحذر المستشارة من ان فرض المرحلة الثالثة من العقوبات يدخل المانيا واوروبا فى دوامة خطيرة من التصعيد سيخسر فيها الجميع! اما الحزب الإشتراكى الديموقراطى الشريك فى الحكومة والذى يضم تقليديا قطاع عريض من اصدقاء روسيا والمتعاطفين معها ( تقدر نسبتهم ب70% حسب إستطلاع معهد امنيد ) فقد فاجأ رئيس الحزب ونائب المستشارة زيجمار جبريل الرأى العام منذ ايام بانتقادات للإتحاد الأوروبى محملا إياه مسؤلية مشتركة للتصعيد الحالى فى اوكرانيا.هذا غير الإنتقادات الصريحة من قبل مستشارى المانيا الاسبقين الإشتراكيين جيرهارد شرودر وهيلموت شميدت لسياسة ميركل ومحاولات الإتحاد الأوروبى عزل روسيا بكل الطرق.غير ان الضغط الحقيقى الذى قد يدفع المستشارة لمراجعة موقفها هى ضغوط اللوبى الإقتصادى الذى إجتاحته موجة من المخاوف المبررة بسبب زيارة الرئيس الروسى بوتين للصين هذا الإسبوع. وخرجت تحذيرات كبار رجال الأعمال الألمان تحذر الحكومة من اضرار هائلة ستصيب الإقتصاد الألمانى إذا ما اصرت على التصعيد مع موسكو، وهو ما سيعد بمثابة ضربة قاضية ايضا لسياسة “ التغيير من خلال التجارة” التى تنتهجها المانيا فى روسيا منذ عقود كما يفتح الباب واسعا امام الشركات الصينية لتملأ الفراغ الألمانى فى السوق الروسية. ويشير هؤلاء إلى هناك اكثر من ستة الاف شركة المانية تعمل فى روسيا ترتبط بها اكثر من 400 الف وظيفة فى المانيا. كما أن المانيا تستورد ثلث احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا ويصل حجم التبادل التجارى بين البلدين إلى 76 مليار يورو. ويستفيد الإقتصاد الألمانى القائم على التصدير اساسا من السوق الروسية التى تستورد بما يعادل 48 مليار يورو منتجات كيماوية وادوية وسيارات وماكينات المانية. ومن بين الشركات الألمانية العملاقة فى روسيا على سبيل المثال فقط ، فولكسفاجن، اكبر شركة المانية والتى تعتزم بناء مصانع جديدة فى روسيا واستثمار مليار ومائتى مليون يورو خلال السنوات الثلاثة المقبلة. كذلك مجموعة مترو ثامن كبرى شركات المانيا من حيث التعاملات وشركة إيون كبرى شركات الطاقة الالمانية ولديها استثمارات بسبعة مليارات يورو. وتسابق الاتحادات الإقتصادية الألمانية الزمن من خلال إتصالات مكثفة بأعضاء البرلمان الألمانى والسياسيين والمسؤلين من اجل المراهنة فقط على الحوار للتوصل لحل سياسى مع موسكو ولو تطلب ذلك تقديم تنازلات اوروبية مثل ضمان حياد اوكرانيا مع تعهد روسيا على عدم التدخل فى الأقاليم الشرقية او دعم الإنفصاليين فيها. وقبل ايام من مشاركة عدد كبير من كبار رؤساء الشركات الالمانية والإتحادات الإقتصادية فى المنتدى الإقتصادى العالمى فى بطرسبرج يوم الخميس طالب اولريش جريلو رئيس اتحاد الصناعات الألمانى الحكومة الألمانية بتحمل مسؤليتها فى التهدئة، اما رئيس الرابطة الإتحادية للمصارف الألمانية يورجن فيتشن فحذر ميركل من التضحية بكل ما حققته المانيا من تقارب وعلاقات مكثفة بروسيا خلال سنوات طويلة من التعاون بعد انتهاء الحرب الباردة. واغتنم هؤلاء زيارة بوتين للصين هذه الايام والصفقات الإقتصادية المترتبة عليها للتحذير من ان الضغط الأوروبى والألمانى على موسكو هو الذى دفعها الآن نحو التقارب مع بكين وهو ما كان يستبعده المراقبون فى الغرب حتى وقت قريب على إعتبار ان روسيا ترى فى الصين الصاعدة تهديدا لنفوذها فى آسيا. فى السياق نفسه حذر معهد ميركاتور للدراسات الصينية من أن روسيا التى تعتمد على صادرات النفط والغاز لتمويل نصف ميزانيتها قررت اخيرا التوجه نحو بكين رغم ما تنطوى عليه تلك الخطوة من مخاطر الوقوع تحت تاثير العملاق الصينى فى المستقبل. ومن المقرر الآن ان تسفر المفاوضات بين موسكووبكين لإنشاء خط تصدير الغاز الروسى من سيبيريا إلى شمال شرق الصين والمستمرة منذ عام 1999 عن خطوات فعلية بعد ان قدمت موسكو تنازلات فى الأسعار. بذلك سيتم إعتبارا من عام 2018 تدشين الخط الذى ستضخ شركة جازبروم الروسية من خلاله 38 مليار متر مكعب من الغاز للصين لمدة 30 عاما!! وبذلك ، كما يتوقع المركز ، ستتمكن روسيا من تعويض وقف صادراتها من الغاز لأوروبا بدون اية مشكلات، فى حين ستضرر شركات الطاقة الالمانية العملاقة مثل ايون وفينترشال وغيرها من قطاعات الإقتصاد الألمانى من جراء تقليص التبادل التجارى والعقوبات الروسية المضادة ومن جراء ارتفاع مصادر الطاقة البديلة تعويضا للغاز الروسي. ويبدو ان المستشارة انجيلا ميركل المعروفة ببراجميتها وإعلاء المصلحة الألمانية فى النهاية قد بدأت تستجيب لهذه الضغوط، ففى تصريحات غير مسبوقة منذ بداية الأزمة فى اوكرانيا اشارت ميركل مؤخرا الى وجود “.. إختلافات عميقة فى وجهات النظر مع روسيا..” ولكنها اكدت رغم ذلك قناعتها “..بأن الشراكة الوثيقة مع روسيا ستستمر على المديين المتوسط والطويل مؤكدة رفضها لانتهاج سياسة إحتواء جديدة تجاه روسيا والعودة لسياسات القرنين التاسع عشر والعشرين .