مع نهاية مواسم الحصاد وجنى القطن والذرة، يكون الفلاحون قد أمضوا فصلا من المشقة، ويحق لهم نيل بعض المتعة، فيسرى النبأ بأن شاعر الربابة سيحل ضيفا على القرية، ويسرع الجميع إلى الجرن المضاء بالمصابيح الغازية. حيث يتربع ساحر البطولات والملاحم في مهابة على دكة خشبية مرتفعة، وحوله آلاف الفلاحين في هرج وفرح، ويأخذ منهم الحدث مأخذه، فمسرح الليلة ممتد على خلاء منبسط، وستدور فى فضائه حكايات الغربة والعشق والمآثِر، وتتعدد خطابات الثقافة الشفاهية وتتداخل، ولا يقتصر على الراوى، بل ستتقاطع فيه دراما المتخيل المروى، بحكايات الواقع المعيش: ولا يخلق الرحمن أفضل من النبى .. نبى عربى مالى شفيع سواه، يقول الأمير أبو زيد الهلالى، وشؤم الليالى والزمان دهاه، لما أجدبت نجد وأرضها، سبع سنين مجدبات ويلاه، سبع سنين يا نجد ما مسك ندى ولا هفهف البحرى أعلى وطونها. هكذا يضع الراوى السامعين فى حالة إيهام وتماه بين قسوة الغربة التى يوقعها القحط بقبيلة الهلالية، والاغتراب الذى يكابده الفلاحون منذ الميلاد وحتى القبر، فهذه المحاصيل التى سال عليها عرقهم دماء، سوف يسرقها حلف القهر الأبدى المكون من جابى المال، والبنك، واحتكار التجار، لتتضافر غربة الهلالية، واغتراب الفلاحون، ليصيرا معا مدخلا للحكاية. خطاب الحرب: وقالوا ترود الغرب ألا يا سلامة.. رود لنا تونس وعال حصونها... لو كان تحتى سالم القِنُّ.. وفى يدى يمانى يغلب البرق لونها، انزل لسوق الحرب يا شائع السنا وسوق المنايا بينا يربحونها، ولابد من لطمة على باب تونس ولو كانوا بسيوفهم زربونها. تدق طبول الحرب على خشبة المسرح، وفى الساحة سيرتدى الفتية من العياق الطواقى المزركشة و«اللاسات« الحرير، ويتسلحون بالشوم، وبينما يحكى الراوى حروب الهلالية، ستدور على الأرض معارك حية، محسوبة نتائجها سلفا، فبعض أبناء القرية سيلعب دور فارس الناحية، وسيفصل آخرون بين المتعاركين، كما سيكون للخفر والعمدة الدور الحاسم، كى تنتهى الأمسية على خير، ودون ضرر جسيم. خطاب المعرفة والوعى بالعالم: للبطل الشعبى مأزق إشكالى حول صحة نسبه، سيقاتل من أجل اعتراف القبيلة به، لن يفكر فى بلوغ حافة العالم، أو نزول العالم السفلى، فهو ليس بطلا إغريقيا يتعين عليه مصارعة الآلهة، لهذا سيبدأ كل فصل من فصول الحكاية بذكر النبى المصطفى من الله الواحد الجبار، وهو تسليم برؤية للوجود تجمع الرواى والمستمعين فى رباط معرفى وثيق، يطابق الوعى السكونى لدى الفلاح المصرى الذى نشأ منذ آلاف السنين في عالمه المحكوم بثلاثية النهر والشمس وصيرورة تكرارية، وتاريخ من العبودية أمضاها في خدمة الإمبراطوريات المتعاقبة. يقف أبو زيد في حضرة علماء محكمين، ليطرح عليه »سليط« وهو من الجن، أحاجي وألغاز يصعب على الإنسان العادى حلها: أنا استغفر الله العظيم من الخطأ، ومن كل كلمة قلتها في معاور، أسألك يا ابو زيد منى مسائل، تشرحها لى إذا كنت في العلم ماهر، أسأل عن أول ليس له ثانى، واتنين متشاحنين مع بعضهم، لا ده يحصل ده ولا يطوله، والاتنين متفرقين إلى يوم حاشر، تبدا أبو زيد وقال: تسأل عن أول ولا له ثانى، إله مقتدر حى قادر، واتنين متشاحنين مع بعضهم هذا النهار والليل في فلك داير.... وأما الولد الذى خلق قبل جده هذا رسول الله طه المهاجر، والولد الذى ولد بلا أب فهو عيسى ابن مريم، كذا قالت أهل العلوم الأطاهر. ما يبدو تعبيرا عن ذكاء البطل الشعبى، وتحليه بالفطنة، هو درس معرفى تقدمه الثقافة الشفاهية، يتيح لجمهور أمى لا يعرف القراءة والكتابة الوعى بالعالم ، وفى أسئلة أخرى سيكون لرموز الميثولوجيا والقصص الدينى، مثل الحوت والثور وانفلاق السماء عن الأرض دور رئيسى في قصة الخلق: خطاب العشق: هذه الملاحم لا تروى دون قصص للهوى والعشق، فالملك والفقير لا يستطيعان العيش بدون الحب، يحكى شاعر السحر عن صبايا في جمال القمر، الفوز بقلوبهن أقسى من معارك البيداء، يخيم على فضاء القرية رائحة الشبق الثقيل، فبينما يتبختر العياق حول مواقد النيران، يبحثون عن العراك، ستفترش الفراشات في أثوابهن اللامعة الملونة أسطح الدور الطينية الواطئة، مواريات في العتمة، وقد رسمن أعينهن بالكحل، وخصبن كفوفهن بالحنة، وأعتقن لنسيم الليل خصلاتهن من تحت مناديل مزينة بالترتر، وأطلقن نظراتهن محملة بعطر الغواية سيوفا تصرع الرجال: يا من هواه أعزه وأذلنى، كيف السبيل إلى وصالك دلنى، وصلتنى حتى ملكت حشاشتى...... كنت في جلدى زى بعدى عن ملاحى، وأوثق صدهم قلبى جراحى، فصرت من الهوى قدرا وصاح، ألا يا ليل هل لك من صباح. تخفق القلوب بالوجد، وتغزل في فضاء القرية قصص الهوى والغرام، تطل الصبايا من حواف الأسطح مثل أقمار تبزع في السماء، تتبادل مع الفتية لغة العيون. خطاب الحكمة (الحِكَمٌ والأمثال): كلما ارتفع التوتر الدرامى يتحول الرواى إلى سلطة مهيمنة على جمهرة السامعين، ينشد خطاب الحكمة، كى يتبصروا في الحياة: آه من الدهر والزمن.. ولا يوم إلا من العمر رايح، اسمع كلام أذكره مهما كان المصاب غالب، سعادة الدنيا قريب زوالها، إن مالت الأحمال بإيدى عدلتها، وان مالت الدنيا على اعتزالها، لا خير في الدنيا ولا في نعيمها، توطى عزيز الناس وترفع نذالها، ثمانية للمرء لابد عنهم، عسر ويسر واجتماع وفرقته، وحزن وفرح وسقم كذالها، وعاقبة لا يزال نعيمها، أسمع يا ابنى وصية من لسان حبيب، أحكم بشرع الله على الناس بحالها خطاب الفضيلة ويستمر الراوى في إعْمَال سلطته على جمهوره المتحفز، فينشد خطاب الفضيلة والوعظ، ليرتقى بدوره فى عالم المتعة، إلى وظيفة الفليسوف الشعبى: لا دار يا صاح بعد الموت تسكنها إلا التى أنت بالأعمال بانيها ومن بنى بخير طاب مسكنه ومن بنى بالشر خاب بانيها ومن لا له تاريخ بالخير يذكره لم يمدح بالجود والكرم ومن كان في علمه يدير أموره من الدنيا يقاسى تعايب ترى البحر لا تعكره الرمم ولا أحد يعود لموج المراكب شاعر السحر في ظلال ساحر الحكاية يحل الخيال محل الواقع المهان، ويخلع الفلاحون ثوب العبودية، ويرتدون عدة الحرب والقتال، ويتشبع وجدانهم ببلاغة الكلم، ليتحول خلاء القرية إلى أرض من السحر والبيان، وعندما تنطلق المآذن بنداء الفجر، تكون النفوس قد غسلت من سموم القهر والذل، واستعادت الروح قدرتها على تقبل الشقاء من جديد، يُسمع صرير الأبواب، يخرج الفلاحون في العتمة يقودن بهائمهم، إلى حقولهم التى تسكن الأفق. مع الانفتاح 74 تتوارى المصابيح الغازية، وتحل الكهرباء ومبانى الإسمنت المشوهة، ويتفشى التلوث ليقبض على البدن والنفوس، يتوقف الفلاحون عن الاستيقاظ مع انبلاج الفجر، ويعيشون حياة البطالة والتَعَطَّلَ، بعد أن ميكنت الزراعة، فى ملكيات لا تتوقف عن التفتت، ويمضى العمر في عالم الانهيار والخسارة. أودع مصر قبل سفرى إلى الخارج، بليلة أخيرة في رحاب »فتحى سليمان« ساحر الربابة وشاعر الملاحم والبطولات، بصحبة رأفت نصر وجابر يونس، سيكون الأول دليلى إلى شخصية »عبد الله عبد الجليل« في رواية »مراعى القتل« وسيعكس كلاهما قدرا كبيرا من عالم سيتوارى وتتوارى قيمه العظيمة، ليشغل مكانه شعراء يغنون المنحط من القول، وينشدون النشيد الخالص بالعبودية: يا رب إحنا الكل عبيدك، خالق لينا شى بتجلى فيه عبيدك، كرامات للنبى يا رب ترضينا، وببركة نبينا ترحم كل عبيدك. في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ستبزغ أجيال جديدة، ساهم في تشكيل وعيها أدوات الاتصال الحديثة، أجيال تطلع إلى قيم الحرية، وكأن المصرى الحديث يكسر حلقة الديمومة التكرارية، التى أوثقت أجداده بأصفاد العبودية، بحثا عن عالم جديد.