أخيرا ظهر «بلال نجم الدين» الذى كان ولعله مازال حديث إعلام الداخل والخارج معا، بفضل ما نسب إليه من حكايات فساد واتصالات هاتفية مريبة والتى سربت مضامينها لتنطلق بسرعة البرق إلى شبكات التواصل الاجتماعى، ويوم الأحد الماضى وبجانب أبيه رجب طيب اردوغان، وفى شرفة المقر الرئيسى لحزبهما الحاكم بضاحية بجلت فى العاصمة، لم يكن هناك داع كى يخاطب الجماهير، فقط أكد بظهوره أنه لم يترك البلاد وان ما لصق به من إتهامات هى محض افتراء، والدليل فوز العدالة والتنمية ولولا والده لما تصدر قائمة الأحزاب بفارق لا يستهان به . ولأن الفضائح طالت العائلة، كان طبيعيا أن يأتى أفرادها ليصطفوا جميعا برفقة الاب والابن، وفى الوسط الأم أمينة هانم وابنتيها وقد رفعن أيديهن تحية، ماعدا أردوغان وبلال اللذين فضلا أسوة بجماعة الإخوان المسلمين، التلويح بإشارة رابعة للجماهير الغفيرة الذين توافدوا للتعبير عن فرحتهم بالانتصار على " الخونة مروجى الشائعات التى حاولت تلويث ذمة أهل الحاكم الناصعة ، وها هم يجرون أذيال الخيبة غير مأسوف عليهم". ومع أهازيج الفرح تعالت الاناشيد والاغانى الحماسية متمحورة حول اردوغان فقط ، سليل مجد سلاطين الأمبراطورية العثمانية . ألم يدعو هو نفسه ، أتباعه ومحبيه صباح ذلك اليوم المشهود الذى سيعرف ب «غزوة الثلاثين من مارس لدحر الأعداء»، بأن يلقنوا «الدجالين» وهم خصومه، صفعة عثمانية ويالها من إثارة فى أن يأتى الاحتفال والذى بدأ قبل منتصف الليل بقليل والفرز مستمر وسط تقارب شديد دون حسم بين المتنافسين خصوصا فى المدن الكبرى . وقد اعلنت كالة أنباء الاناضول الرسمية عن فوز الحزب الحاكم فى كل من إسطنبولوأنقرة فى حين لم يكن قد تم فرز سوى 25% من إجمالى الصناديق. غير أن المفاجأة التى فجرها حزب الشعب الجمهورى المعارض هى أن رئيس تلك الوكالة كان يقبع فى الدور الثالث بمبنى حزب العدالة والتنمية، بالتزامن مع بث أخبار وكالته تشير إلى تقدم مرشحى العدالة بالمدينتين الكبيرتين، فإن لم يكن متواطئا فماذا كان يفعل؟ هكذا تسائل أحد أقطاب الشعب الجمهوري. فى المقابل كانت وكالة انباء جيهان الموالية للداعية فتح الله جولين تدحض مزاعم فوز العدالة مؤكدة أن الشعب الجمهورى هو من انتصر بالعديد من المحافظات معددة أمثلة منها حصوله على 45% من اصوات أنباء انقرة ، فى حين كان نصيب الحزب الحاكم 44 %، الشىء عينه حدث فى اسطنبول حيث صوت نحو 46% لمرشح الجمهورى و45% للعدالة. أمام تلك المشاهد تبادل قياديو الحزبين التصريحات أحدهما يتهم الآخر بالتلاعب بالنتائج، ويبدو أن الأمر لن ينتهى حتى بعد إقرار المجلس الاعلى للانتخابات للنتائج الرسمية . المهم أن الحاصل الآن غير مسبوق منذ ستة عقود من تاريخ الجمهورية، فللمرة الاولى يعلن مرشح الحزب الحاكم بالعاصمة فوزه بالانتخابات رغم عدم انتهاء فرز الاصوات فى الكثير من صنادريق الإقتراع ويعلن نائب رئيس العدالة والتنمية باسطنبول فوز مرشح الحزب قادر طوباشى ولم يكن الفرز قد تجاوز ال 20% . الغريب أنه فى ذروة نشوة النصر قدم أحمد أوكسوز كايا نائب الحزب عن مدينة قيصرى وسط الاناضول استقالته من حزبه احتجاجا على سياسة حكومته لتخسر، المجموعة البرلمانية مقعدها العاشر منذ فضيحة السابع عشر من ديسمبر الماضى، لتصل الى 317 نائبا . والشعب الجمهورى ذاته رغم أنه توقع أن يحتل العدالة المرتبة الاولى إلا أنه اعتبر اردوغان قد انتهى سياسيا وليس لديه فرصة للفوز بانتخابات الرئاسة لتورطه فى قضايا الفساد والرشوة، بالإضافة إلى تقييد وانتهاك الحريات الأساسية، وفى عبارات شديدة اللهجة وجه نائب رئيس الحزب فاروق لوغ أوغلو انتقادات حادة للعدالة باستغلال الإسلام من أجل تمرير سياساته، واستغلال الأكراد الذين يتذكرهم قبل الانتخابات وينساهم بعدها. يذكر أن تأييد الأكراد وتصويتهم لاردوغان، جاء بناء على تعليمات محددة وقاطعة من عبد الله أوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية، والذى يقضى عقوبة السجن مدى الحياة بجزيرة مرمرة غرب البلاد، وهو ما ساهم فى قفز نسبة الحزب من 39% بانتخابات 2009 إلى 45.6%. بالطبع سيكون هناك الثمن الذى يجب على اردوغان وحزبه دفعه فى غضون الاسابيع القادمة، فهل سيتمكنا من ذلك؟ أم سيديران ظهريهما له؟ وهذا سيناريو محتمل جدا، لتدخل تركيا من جديد نفقا من العنف والمواجهات المسلحة، خاصة وأن أوجلان سبق وأمهل الحكومة حتى نهاية استحقاق البلديات، كى تنفذ ما سبق ووعدت به. إذن هى أجواء تبدو ملبدة بالغيوم ظاهرها الحبور والسعادة ن لنحو 12 مليونا أعطوا أصواتهم للعدالة مقابل تعاسة نفس العدد وربما أكثر تفرقت أصواتهم على أربعة أحزاب (الشعب والحركة القومية والسلام والديمقراطية وأخيرا سعادات) ورغم كل ذلك إلا أن صحيفة جمهوريت الشهيرة وصفت الوضع المترتب على تلك الانتخابات بأنه تكريس للتوتر الذى عاشته وسوف تعيشه البلاد فى المرحلة القادمة. وخارجيا لا ينتظر أن تؤدى نتائج محليات تركيا إلى تهدئة مخاوف الغرب الاوروبى والأمريكى معا وبالنسبة للمحيط العربى فالوضع لن يختلف كثيرا فالشكوك حيال زعيم الاناضول باتت متجذرة بعد أن ارتدى ثوب «الباديشاه العثمانى»، وبعد أن كانت نخب كثيرة تتطلع له كمصدر إلهام، باعتبار بلده نموذجا مثاليا يجمع بين الإسلام والديمقراطية صاروا منذ فترة ليست بوجيزة يصفونه بالمستبد بما يشكك فى استمرارية ما نعت بالمعجزة التركية، ويكفى استمرار حظر مواقع التواصل الاجتماعى مثل توتير ويوتيوب رغم وجود حكم قضائى يلغيه بمعنى أن الاناضول عليه أن ينتظر المزيد من الأساليب الاردوغانية القمعية دون اعتبار لغضب المجتمع الدولى فليذهب للجحيم، فوفقا لتصريح لمسئول حكومى لصحيفة الواشنطن بوست فالأمر لا يتعلق بقضية الاستبداد فى مواجهة حرية التعبير، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بحماية الخصوصية والأمن القومى. وللانصاف تتحمل القوى السياسية جزءا كبيرا من المسئولية، إلا أن ما تسوقه من أعذار وتبريرات يبدو مفهوما، فهى إجمالا محاصرة بفضل إعلام صارت معظم وسائله تحت سيطرة اردوغان وحاشيته الذين لم يكتف بذلك بل سخروا إمكانات الدولة لمؤازرة حزبهم، إضافة إلى استيلاب إرادة المواطنين برشاوى انتخابية وتلاعب فى أثناء فى الفرز تشهد بذلك الاحتجاجات التى شهدتها أنقرة أمس الأول الثلاثاء وعلى تعبير ميليت انتهى الاقتراع واستمر الاعتراض على ما خلص إليه من نجاحات مشبوهة ومزورة... اليست تلك خسارة فادحة؟!.