عاصفة من الجدل أثارها ظهور الراقصة أرمينية الاصل صافيناز برقصتها الشهيرة على نغمات اغنية وديع الصافي « على رمش عيونها» . فما بين الإمتعاض من أداء مغرق في الحسية ، ومقارنة اداء صافيناز بأخريات في أزمنة مضت ، يتجدد الحديث عن الرقص الشرقي في مصر. الأمر الأكيد ان للرقص لدى المصريين مكانة خاصة فهو تعبير حقيقي عن لحظات الفرح الغامر الذي يجتاحنا ، ويطلق العنان للجسد ليعبر عن هذه اللحظات. والمدهش حقا ان الوسيلة التي نعلن بها عن بهجتنا ، هي ذاتها التي نستخدمها لندلل على مدى الانحطاط الاخلاقي الذي صرنا نعيشه. لا اعرف تحديدا كيف حدثت الفجوة في مراحل تطور الرقص الشرقي، ليصبح مرادفا للغواية في بعض الاحيان وتعبيرا عن الابتذال في اغلبها. دراسات التاريخ تجزم بالاصل الديني للرقص الذي اعتبر طقسا كهنوتيا لدى الفراعنة مثلا تؤديه الكاهنات في المعابد. وكذا الامر في الحضارة الساسنية في بلاد فارس ( إيران) ، كما أكدت رسومات معبد الاله ذو المقمة في حضرموت القديمة أن الرقص لم يكن بعيدا عن شبه الجزيرة العربية. وكما ارتبط الرقص بالطقوس الدينية ارتبط أيضا بالمناسبات الاجتماعية والاحتفالات ، وفي فترة ما لم تكن يخلو حفل زفاف من راقصة تؤدي استعراضها مرتدية زيها المميز لتضفي بهجة على الحضور. وإذا كان الجزم بتاريخ محدد يمكن الرجوع له لظهور استعراض الرقص الشرقي كما نعرفه اليوم أمرا يقترب من المستحيل. الا اننا يمكن أن نعتبر العشرينيات من القرن الماضي هي فترة ازدهار هذا النوع من الفن وترسيخ شكله الحالي ، وذلك بظهور راقصة لبنانية جاءت لمصر واسست اول اوبرا كازينو فيها والذي اعتبر بحق اول اكاديمية تخرج فيها اجيال من الفنانين المصريين ومعهم بالطبع راقصات.. هذه الراقصة هي بديعة مصابني. ربما لا توجد راقصة حظيت بالشهرة في اجيال الاربعينات والخمسينات لم تكن ممن تخرجن من كازينو بديعة، تحية كاريوكا وببا عز الدين وحكمت فهمي وامتثال فهمي وسامية جمال ونعيمة عاكف وزينات علوي وغيرهن كثيرات. ربما هذا الجيل تحديدا هو الذي صنع العصر الذهبي للرقص الشرقي في مصر ، والذي مازالت راقصات اليوم يستحضرنه في كل احاديثهن عندما يرغبن في اضفاء قدسية الفن على ما يقدمنه من استعراضات راقصة. الأمر بالتأكيد يفسره إيمان راقصات ذلك الجيل بأن ما يقدمنه هو فن بالفعل له من الاصول والقواعد ، ما يجعله جديرا بأن يدرس في معاهد وتقام له المهرجانات والمسابقات العالمية.. فعلى سبيل المثال لا الحصر حصلت نعيمة عاكف على لقب افضل راقصة في العالم من مهرجان الرقص العالمي في موسكو عام 1958 . نعم في الخمسينات والستينات حظي الرقص الشرقي بما يستحقه من مكانة وسط الفنون الانسانية ، وحظيت الراقصات بقدر كبير من الاحترام لعملهن الفني وهو مادفع نعيمة عاكف وايضا زينات علوي للجهاد من اجل انشاء نقابة خاصة بالراقصات الشرقيات تدافع عنهن وتمنحهن الاحترام وتكفي الفقيرات منهن شر الانزلاق الاخلاقي أو الموت جوعا. وهو الامر الذي أجهض في مهده من قبل المتشددين اليمينيين في المجتمع. لكن هل يمكن اعتبار أن ما قد يمارسه المتشددون من ضغط على المجتمع هو الحائل الوحيد امام اكتمال الاعتراف بالرقص الشرقي كأحد الفنون المهمة والتي تساهم في تشكيل الوجدان المصري؟ بالقطع الاجابة هي لا ، لأن حجم الدور الذي يمارسه المتشددون في اي مجتمع يتعاظم في فترات ضعفه ويضمحل في فترات ازدهاره وقوته، والاكيد ان الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي ازهى عصور القوة في المجتمع المصري ، حيث مجتمع ناهض وحلم جماعي لدى كل المصريين بالصعود. وإيمان راسخ بأن التقدم لا يمكن أن يحدث في مجال دون الآخر. ولهذا كان الفيلم السينمائي المصري يجوب مهرجانات العالم مع ارتفاع احجار السد العالي و تستقبل مسارح الدنيا حفلات ام كلثوم الغنائية واستعراضات سامية جمال وسهير زكي الراقصة. وتسافر فريدة فهمي مع فرقة رضا لتعلن لدول العالم ان لمصر فنونا وثقافات وحضارات مختلفة. مع هزيمة 67 شهد الفن المصري ومعه الرقص الشرقي لحظات من التراجع لتعود صورة الراقصة الشرقية الى نمطيتها فيما قبل الخمسينات. وكان ذلك طبيعيا في مجتمع ،افاق فجأة ليواجه زيف الواقع الذي صدرته له السلطة التي آمن بها. لكنه مجتمع لم يفقد قدرته على الحلم بعد والقتال من اجل حلمه ، وكان جيلا جديدا من الراقصات الشرقيات قد ظهر ومازال مصرا على الحفاظ على ما حققه من مكتسبات. وهكذا ظلت سهير زكي أيقونة في الرقص الشرقي على نغمات كبار الموسيقيين من وزن محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، واستمرت نجوى فؤاد في تقديم عروضها التي ما زلت تصر على تسميتها رقصا شرقيا استعراضيا حتى اليوم. لكن ما حدث في السبعينات كان اكبر من قدرة راقصات هذا الزمان على المواجهة وعادت من جديد النظرة الدونية للفنون بشكل عام فما بالنا بالرقص الشرقي. واستسلمت الراقصات لتنميط المجتمع لهن مكتفين بما يحققه لهن مجال عملهن من شهرة وثروة تحميهن من تجريحات مجتمع جديد نام بدأ في تحريم مجرد ظهور انساء في الشوارع. وساعدته سلطة امتلكت من الجهل ما دفعها لتجاهل الفنون وتخليها عن عناصر قوتها الناعمة . وهكذا ظهرت هياتم وسحر حمدي وفيفي عبده يقدمن تكنيكا صحيحا في حركات الرقص الشرقي ويحملن قدرا من الموهبة لكنهن ايضا يبتعدن به عن الرقي والقدرة عن التعبير الجسدي عن الموسيقى والنغمات، لذا لم يكن غريبا أن تضمن فيفي عبده عروضها فقرة بدون موسيقى او حتى ايقاع. لتلحق بها دينا وهندية ودندش وتكون المنافسة في مدى عري زي الرقص لتتسيد دينا الساحة بلا منافس تقريبا في التسعينات. ومن ثم نصل اليوم الى صافيناز التي تسير على خطى من سبقنها بارتداء ازياء تكرس للإثارة كإحدى ادوات ماتقدمه وحركات تعبيرية تحمل من العنف اكثر مما تقدمه من استعراض. ورغم ذلك يظل الرقص أحد اهم مظاهر الاعلان عن الفرح رغم تقييماتنا الاخلاقية لمن تمتهنه، فهل نشهد فيما هو آت نهضة مجتمعية تعيد الاعتبار لفنوننا ووسائل تعبيرنا عن السعادة؟ وحدها الايام هي من ستجيب.