عبد الودود..مجسم لفلاح مصري نحتته أنامل شابة من عظام الجمل وقاموا بصنفرته وتلميعه ، ليبدو كأنه مصنوع من العاج. 12 فتاة وسيدة من قرية الكراتية بشمال قنا يجتمعن يوميا فى جمعية تنمية المجتمع للتدريب على النحت على عظم الجمل. ليشكلن فى النهاية منتجات وكأنها تشكلت من سن الفيل. قطع شطرنج، سيوف صغيرة، جمال..أشكال مختلفة تدربن عليها على يد متخصصين قدموا إليهن من القاهرة. وذلك فى إطار مشروع لتنمية الحرف التراثية وتشغيل الشباب تقوم به المبادرة المصرية للتنمية المتكاملة « نداء» بالتعاون مع صندوق الأممالمتحدة الإنمائي ووزارة التعاون الدولي.
يتم التدريب على 12 حرفة فى 12 قرية وتقوم المبادرة بمساعدة الحرفيين الجدد على تسويق منتجاتهم التي تختلف من قرية إلى أخرى ولا تتكرر. فمن المعروف أن قنا أرض الكنوز والنفائس الأثرية والتراثية، وأنها تشتهر بالصناعات اليدوية وكانت تعتمد عليها من قرون عديدة مثل الفركا والفخار لكنها عانت الإهمال طويلا، وبدأ الكثير منها فى التواري والاندثار، فى الوقت الذي تدر فيه الحرف اليدوية مليارات الدولارات فى دولة مثل الهند. وهو ما دعا المبادرة للسعي إلى الاستفادة من التراث وتنمية الصناعات اليدوية وتدريب فتيات وشباب القرى عليها باستخدام خامات رخيصة وتوعيتهم بمتطلبات السوق، كما يقول وليد عبدالرحيم، مسئول «نداء» فى قنا. ورغم أن الأمر يبدو جديدا وصعبا على المتدربات والمتدربين الجدد إلا أن الكثير من بينهم يبدون حماسا شديدا وإقبالا على تعلم الحرفة بل والتميز فيها. وهو ما تتجلى مشاهده فى العديد من الورش وأماكن العمل فى القرى المختلفة. فى الكراتية، وأثناء عملية تحويل عظام الجمال إلى قطع فنية، تعرف كل من ثريا وريهام وزينب دورها، من تنظيف للخامة وخرطها.. التشكيل عليها وتجميعها وصنفرتها.. وتثابر فى تنفيذه حتى تخرج القطعة إلى النور معلنة ما قمن به من إنجاز. وذلك على الرغم من أن بعضهن لم يلتحقن بالتعليم أو لفظتهم الظروف المادية وتقاليد الصعيد مبكرا من مدارسهن. أحببن المهنة وقررن الاستمرار فى ممارستها لتكون مصدرا للدخل يساعدن به أسرهن، أو يصرفن على الأبناء بعد وفاة الزوج. ومن الكراتية إلى الجمالية تقوم أسماء وهيام وهويدا بنوع آخر من النشاط وهو تحويل الخشب إلى دمى وقطع فنية يطلقون عليها أسماء مختلفة فهذه دمية أم فرج، وهذا أراجوز تلتحم يداه لتصفقا بفرحة عند تحريكهما..وإلى قطع من الأرابيسك يدهشك اتقانها. منتجات لم نتصور، كما تقول أسماء أننا سوف نستطيع تصنيعها بأنفسنا: « لكن مع الوقت لكننا تمكنا منها حتى أصبحنا نلبى طلبات بأعداد كبيرة». ومن تصنيع الخشب إلى تجميع الأحجار وتنسيقها وتشكيلها لإنتاج الحلي اليدوي الذي اشتهرت به بنات دندرة. فى ساحة المنزل الواسعة لإحدى الأسر «الدندراوية» الذي تحول لمشغل ومعرض للمنتجات، تنكب الفتيات بصبر واستمتاع على تجميع الأحجار فى أسلاك لتكوين تصميمات فنية قمن بمحاكاتها فى البداية، لكن صارت لهم اليوم إبداعاتهم الخاصة ورؤيتهم الفنية. وفاء ونادية وأسماء، جمعهن عشق الحلي والإكسسوارات والفضول لمعرفة أسرارها وطرق تشكيلها، ليشاركن فى التدريب الذي قدمته المبادرة، ليصبحن اليوم وبعد ثلاثة أشهر، منتجات لأنواع مختلفة من الحلي، يقمن بتسويقها فى معارض بقناوالقاهرة. والمفاجأة كما يقول وليد عبدالرحيم، إن هناك طلبية من الحلي تستعد للسفر إلى بريطانيا لتعرض فى المتحف هناك. فالهدف كما تقول هبة حندوسة، أحد مؤسسي المبادرة وصاحبة فكرة تنمية الحرف التراثية هو محاكاة نموذج ناجح مثل الهند التي تهتم من وقت غاندي فى أربعينات القرن الماضي بتشجيع الصناعات اليدوية وخاصة النول اليدوي والمغزل. واليوم حوالي 50 % من مشتريات الشعب من الإنتاج اليدوي المحلى، الذي ينافس الصيني. « وهو ما أتمنى أن يحدث فى مصر». و تشير: « فى الهند، هناك سوق فى وسط حديقة عامة فى الهند، تمنح الفرصة لكل حرفي لبيع منتجاته وفى كل مدينة سوق دائمة يأتي إليها الحرفيون من كل مكان، لبيع منتجاتهم من إنتاج السنة. ومن يشترون هم الهنود.فهم يصدرون بمليارات الدولارات ويبيعون فى السوق المحلية 50% من إنتاج الحرف المختلفة بخلاف النسيج ، مخترقين كل الأسواق. وقد قمنا مؤخرا بإرسال عدد من الحرفيين والمتخصصين المصريين إلى هناك لاكتساب وتبادل المهارات والخبرات بيننا وبين الهند والاستفادة من تجربتهم. تدريب للشباب وفرص عمل وحماية لحرف تراثية من الاندثار مثل صناعة قوالب الزجاج والتي تثبت المراجع التاريخية أن أصلها فرعوني، إذن ما المانع من استعادة تراثنا؟ وهو ما قامت به المبادرة بإرسال عدد من شباب وفتيات دندرة إلى متحف زكريا الخنانى بالقاهرة ليتدربوا على يد الفنانة عايدة عبد الكريم التي أكدت أنهم أبدوا استعدادا كبيرا للتعلم والإنتاج. وعادوا بعدها إلى قريتهم لتحقيق الحلم على أرض الواقع، وإنتاج قطع فنية من الزجاج فى فرن حراري قامت المبادرة بتوفيره لهم. من الزجاج إلى النحاس، ومن دندرة إلى الشاورية..تتفاوت المسافات وتختلف العادات لكن تظل الفكرة واحدة. هناك وفى مقر جمعية تنمية المجتمع ينكب عدد من الشباب على صناعة الفوانيس ووحدات الإضاءة يدويا، مع الحرص على تنفيذ تصميمات بروح وأذواق مصرية. ويؤكد وليد وعمار أنهما يحرصان على تعلم المهنة لتكون مصدر رزق لهما، فى وقت عزت فيه فرص العمل، ما أن تعود السياحة إلى طبيعتها فى المحافظة. فوانيس من النحاس، تبدو وكأنها تطل من قلب الحقبة الفاطمية يعتبرها الشباب فرصة عمل وتتمنى المبادرة من خلالها، دعم إنتاجنا الوطني من الحرف اليدوية وتنمية الصناعات الصغيرة ضد المنافسة الصينية، كما تشرح داليا عبدالغنى، منسق برامج المشروعات فى قنا. ومن الفوانيس إلى تدريب السيرما فى قرية قصير بخانس فى أبو تشت، تعكف الأنامل الصغيرة على تطريز الآيات القرآنية والرسومات على الأقمشة وفقا لتصميمات يضعها المدرب أمام أعينهم، لتحاكيها الفتيات فى مهارة ودقة تزداد يوما عن يوم لتقترب مع مرور الوقت من الاحتراف. تطريز يدوى.. خيامية، حياكة...فركة.. نسج على النول..ورسم على الزجاج، أنواع مختلفة من الحرف التي تجتذب فتيات وشباب القرى المختلفة فى إحدى المحافظات الأكثر فقرا. فرصة للعمل وكسب الرزق، وأيضا لتحقيق الذات للمرأة التي تحظر عليها التقاليد الخروج من قريتها ومن البيت أحيانا. ومع المزيد من فرص التسويق والتصدير، تتحول الصناعات الصغيرة إلى مصدر رئيسي للدخل القومي إسوة بدول أخرى تحقق ذلك. فحلم القرية المنتجة وإحياء الحرف فيها لم يعد مستحيلا، كما تؤكد هبة حندوسة.