"سلطنة عُمان ليست دولة طارئة" , هكذا وصف د.محمد بن مبارك العريمى رئيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء وطنه فى مقابلة مع وفد من الصحفيين المصريين، وقد كان صائباً دون مبالغة أو تضخيم، فإن زيارة لك عزيزى القارئ إلى السلطنة ستبهرك من خلال المشهد العمانى المنضبط, ولكنك ستكتشف تقصيرا ما منعنا من رؤية نقاط النور فى عالمنا العربى التى لا ينقصها إلا بعض حراك ونفض بعض الأثقال عن كاهل جيل جديد صاعد. فى مسقط ستبدأ أولى خطواتك للتعرف على السلطنة، وربما لن يسعفك الوقت للإلمام بفسيفساء المشهد الثقافى العمانى الممتد فى مكان يتجاوز حجمه مساحة دول الشام مجتمعة، ويتجاوز طول شواطئه ثلاثة آلاف كيلومتر مما يعد بالتفرد الثقافى والثراء الحضارى لكل ولاية عُمانية من حيث الملابس والموسيقى والطعام والعادات والتقاليد التى ما زالت مقيدة بالأداء المحافظ للموروث القبلي، الذى يحاول البعض التحرر منه شيئاً فشيئاً مع احتفاظ السلطنة بإرثها الثقافى الممتد عمقه إلى آلاف السنين، والذى ارتبط بالمجد العمانى القديم فى ركوب البحار واستكشاف الممالك المجاورة والتبادل التجارى والتأثير الثقافى الذى وثقته برديات ونقوش كشفت عن تصدير الساحل العمانى لمادة اللبان المكون الأساسى لبخور المعابد فى مصر والكنائس فى الشام، لدرجة إطلاق بحارتها لاسم مدينتهم صور على صور اللبنانية التى ما زالت تحتفظ بالاسم نفسه وتاريخه. قبل أسابيع قليلة أعلنت مؤسسة جائزة الشيخ زايد للكتاب عن القائمة الطويلة لفرع الآداب للدورة الثامنة 2013–2014، والتي ضمت 11 عملا إبداعيا في مجالي الشعر والسرد، كان من بينها لأول مرة اسم الشاعر العٌماني الكبير سيف الرحبي عن "نسور لقمان الحكيم" الصادرة طبعتها الأولى عن دار الآداب اللبنانية 2012، وطبعتها الثانية الصادرة عن دار الغشام العُمانية. ولد الرحبي في قرية نائية في عمان وكان حدود عالمه تلك الجبال المحيطة بعالمه الصغير المحاصر بالحقول الخضراء، التي رحل عنها الرحبي بعد دراسة قرآنية مبكرة في وسط اجتماعي محافظ يرفض مجرد الاستماع إلى الراديو، وكان أن التحق بالمدرسة الابتدائية في مسقط، ومنها إلى القاهرة للدراسة الثانوية والجامعية بعدها. واستمر ارتحاله متنقلا بين القاهرة وبيروت ودمشق والجزائر وبلغاريا ولندن وباريس والإمارات ومنها إلى مسقط رأسه حيث استقر واستمرت رحلاته لشحن بطاريات إبداعه. التقته "الأهرام" في مكتبه كرئيس تحرير لمجلة "نزوى" الأدبية الشهيرة، وكانت بداية الحديث عن "نسور لقمان الحكيم"، الذي يرفض الرحبي إدراجه تحت فئة ديوان شعر، ويقول: يأتي "نسور لقمان الحكيم" في نصوص متشابكة بين السرد والنثر والشعر عن منطقة الجبل الأخضر في عُمان، في حوار بين ذكريات الطفولة وتأملات الكهولة وعذابات الإنسان بين الماضي والحاضر عبر الزمان والمكان. وتشبه تلك النصوص في تنوعها ما قدمته في إصداراتي الخمس الأخيرة والتي من بينها ما كتبته في الشرق الأقصى، وما تألمت فيه للوضع العربي والأزمة السورية، وأيضاً ما كتبته عن "القاهرة .. زمن البدايات"، والذي يضم كتابات لبدايات الحركة الطلابية والحوارات ببعدها الفكري والثقافي والسياسي. هذه الكتابات التي تحمل الرصيد الوجداني والمراجعات أهم لدي الآن من الكتابات الفكرية والعقلية، وهي ليست سيرة بالضبط، وإنما نص تعبيري مفتوح غير خاضع للتصنيف النقدي المسبق أو التبويب، وهي تجربة تحاول أن تشق طريقها في نوع من المغامرة للخروج على القواعد وتأخذ من أبعاد السرد والشعر والمقال لتدمجها في سياق تعبير يجمع الشتات الواقعي والخيالي بين الحلم والحقيقة وأدب الرحلة في منطق خاص بالنص. - هل تلك الكتب هي سفر في النصوص بعد السفر في البلاد؟ هي كذلك بالفعل، وقد جاءت نتيجة استثمار للتجربة الحياتية ولن أخوض هنا في أدب الرحلة والسفر والجغرافيان وهي أمور لا تعنيني إلا كمحفز لكتابة آثارها وتبعاتها على الرحلة الداخلية من المهد إلى اللحد. وربما ركوني إلى عمان وانطلاقي منها للكتابة في نصوصي الأخيرة مرتبط بحنين العودة الى الرحم الاول الذي خرجنا منه ذات يوم، محاولين جمع شتاتنا في هذا المكان الأول بكل منغصاته وبكل مشاكله ليظل ذلك المكان أكثر حنانا أمام قسوة العالم، كما أن السفر في اللغة ومعها وعبرها، هي رحلة في المخيلة لاختراق هذا العالم. الفرد يتوسل الخروج من أي أفق ضيق محلي او عالمية متوهمة ، الترحل هو جزء من شخصيتي والانتقال المكاني فقط لا يعني شيئاً بالنسبة لي ما لم يترك أثره على النص في أعماقه الجمالية ووصوله إلى آفاق أبعد من المحلية والمقاييس الفكرية الكونية الزائفة. - كيف ترى دور "نزوى" في تحقيق الحراك الثقافي العماني؟ نجحت نزوى باعتبارها واحدة من أهم الدوريات الثقافية في العالم العربي، وعلى الرغم من أنها تنتمي إلى فئة المجلات النخبوية إلا أننا سعيناً إلى ألا تكون حكرا على النخبة، بل نخاطب قارئ عاماً لنساعده في التعرف على الحراك الثقافي. وقد احتضنت المجلة كتابات مئات المبدعين العمانيين والعرب، ونقلت إبداعات شعوب مختلفة الى لغة الضاد عن طريق الترجمة كما تشكل الترجمات الشعرية والروائية جزءًا لا يستهان به من أقسام المجلة. وهناك الباب المخصص لترجمات سيناريوهات سينمائية. وقد نجحت المجلة في سد فراغ كبير في الحياة الثقافية العربية على خلفية طغيان المنتجات والمطبوعات الاستهلاكية. بتجاوزه الأربعين، اتخذ الكاتب والصحفى العُمانى محمد بن سيف الرحبى قراره المصيرى بترك الوظيفة الحكومية، ولم يكن ذلك من أجل كتبه بل من أجل كتب الآخرين، وذلك بعد أن تم اختياره لإدارة "بيت الغشام" أول دار نشر عُمانية خاصة لدعم الأقلام الشابة، ومفردة الغشام تعود إلى متحف يجرى تأسيسه حاليا فى البيت الذى سكنه الوالى محمد بن أحمد الغشام، أحد الشخصيات السياسية العمانية فى عهد السلطان تيمور، جد السلطان الحالي.. - كيف ترى نجاح "بيت الغشام" فى ظل الدعم من وزير سابق ينتمى للأسرة الحاكمة؟ شخصياً، كان لدى حلم قديم، وهو وجود دار نشر عمانية حقيقية وليس مجرد مكتبات لبيع وتوزيع الكتب، وكانت المجازفة بترك الوظيفة الحكومية لتنفيذ الفكرة. وفى معرض مسقط الدولى للكتاب 2013 قمنا بتدشين المؤسسة رسمياً والمشاركة بأربعة عشر إصداراً. اليوم، أشعر بالفخر لأننا نقترب من الإصدار رقم تسعين. قبل تأسيس بيت الغشام كان الإصدار العمانى يطبع مقابل مبالغ مالية فى مسقط، أو فى عواصم النشر العربية، حاليا تتبنى مؤسستنا طباعة الكتاب مجانا، وإهداء 200 نسخة للمؤلف، ونقبل المشاركة فى الربح مع أصحاب ارقام التوزيع المرتفعة. والمؤسسة ليست ربحية، وتسعى إلى الانتشار فى ظل ثبات الدعم المقدم من صاحبها وزير الديوان السلطانى السابق السيد على بن حمود البوسعيدي. - كيف ترى المشهد الثقافى العماني، وهل هناك رقابة من نوع ما؟ لدينا حالة من الثورة الكتابية، لكن الوقت كفيل بفرز الغث من السمين، واللافت أن الكتابة البسيطة تجد جمهوراً أوسع، عكس الكتابة الأدبية التى تبدو نخبوية ومترفعة عن ملامسة الواقع الاجتماعى اليومي، أما على الصعيد الإبداعى فهناك فسحة واسعة من الأمل فى مشهد ثقافى يتجلّى بقوة، ونراهن عليه لتحقيق الانتشار المستحق، لأنه قدم إبداعا قادرا على مجاراة التجارب الأخرى، والتفوق على بعضها. أما عن الرقابة فإن مستواها فى السلطنة منفتح ومتقدم على دول الجوار، وبالنسبة لنا كدار للنشر وطالما أن دائرة المطبوعات والنشر بوزارة الإعلام أجازت الكتاب ومنحته رقم إيداع دولى فيبقى دورنا هو إجازته فنياً، وعلى الأصوات الشابة أن تثبت جدارتها أمام شروطنا الفنية للطباعة حفاظاً على سمعة الدار. كيف ترى موقع السلطنة فى مجال صناعة الكتب ومعارضها؟ المشاركة فى معارض الكتب لا نخضعها لفكرة الربح والخسارة، قدر ما نريد منها الانتشار، للمؤسسة وللإصدارات، على الأقل فى المرحلة الحالية، وفى الغالب فإن سوقنا هو معرض كتاب مسقط، حيث يفد المواطنون من سائر المحافظات للتعرف على أحدث الإصدارات واقتنائها. ولمعرض كتاب مسقط دور كبير فى الترويج للمنتج الثقافى العماني، ولاحظنا خلال السنوات القليلة الماضية أن هناك حالة إقبال على الكتاب العمانى من قارئه الذى أصبح يسأل عن بعض المؤلفين وإصداراتهم، وأعتقد أننا نسير فى الاتجاه الصحيح. وماذا عن إنتاجك الأدبى وجمعك بين الكتابة الأدبية واليومية للصحافة وإدارة مؤسسة للنشر؟ الكتابة هى الرحلة الممتعة. كلما اكتشفنا مدينة عنّ للنفس اكتشاف أخرى، وهكذا لا نلتفت كثيرا للوراء قدر اهتمامنا بالمدينة التى علينا الوصول إليها والسير فى شوارعها بين ناسها. ومنذ صدور مجموعتى الأولى "بوابات المدينة" لا زلت أشعر بلذة الحكاية، وأريد أن أسرد القصص المختزنة فى روحي. لا أدرى من ساقنى إلى الآخر، الصحافة أو الكتابة الأدبية، لكن أحدهما ساعدنى على اجتياز الآخر بنجاح إلى حدّ ما، ولذلك أنا مدين لهما بما أنجزته حتى الآن. وما بين صدور المجموعة الأولى عام 1994 وروايتى الأخيرة عن حارتى فى قريتى سرور، الساكنة بين جبال محافظة الداخلية "الشويرة" فى 2014 هناك 20 عاماً، أرى أن المكان يتحكم كهاجس، كتبته عبر القصة القصيرة، وجربت الاقتراب منه عبر الرواية، ووثقته فى "بوح سلمى" الذى ترجم للروسية والإنجليزية، واقتربت منه أكثر في" بوح الأربعين". وهكذا تمضى الحكاية.