في الذكري السنوية الأولي لثورة25 يناير, ما يزال الغموض يكتنف الكثير من تفاصيل اللحظات الحاسمة في الثورة, لكن الأحداث البارزة ستظل عالقة في الأذهان ومسجلة في التاريخ. ومنها واقعة الاعتداء علي المتظاهرين في ميدان التحرير في الثاني من فبراير والمعروفة إعلاميا ب معركة الجمل, التي أعادت للأذهان معارك العصور الوسطي وكانت بمثابة مثال واضح علي جيل ينتمي للمستقبل والحضارة وجيل ينتمي للماضي. بعد الاختفاء غير المبرر لجهاز الشرطة في28 يناير, ومع انتشار قوات الجيش واستحالة استخدامها القوة ضد الثوار, لم يعد لدي النظام السابق سوي وسائل غير رسمية لحسم المعركة مع الثوار, باستخدام البلطجية والمأجورين في معركة الجمل, التي كانت الفرصة الأخيرة لنظام يتداعي تحت ضغط الثوار. وترجع بداية معركة الجمل إلي الخطاب الثاني لمبارك في الأول من فبراير, الذي استمعت إليه في جريدة الأهرام حيث كانت لدي نوبة عمل بالطبعة الثانية, لقد كان الخطاب بمثابة إشارة البدء لهذه المعركة, فبمجرد انتهاء الخطاب فوجئت بتدفق المئات من مؤيدي الرئيس المخلوع علي شارع الجلاء متجهين إلي ماسبيرو وميدان مصطفي محمود مارين من أمام مبني الأهرام. واعترف بأن هذا الخطاب رغم تأخره كالمعتاد كان أفضل من سابقه خاصة النبرة العاطفية التي أثرت في الكثيرين, مما دفع بزملائي ليسألونني عن انطباعي وهل ما جاء فيه سيكون كافيا ومرضيا للمعتصمين في التحرير باعتباري من المعايشين لهم يوميا, لكن اجابتي كانت بالنفي وأنهم سيصرون علي مطلبهم بتنحي مبارك, ووصفت لهم الخطاب بأنه مثل السم يزرع الفتنة والانقسام بين المصريين. وللحق كنت أخشي من هجوم مؤيدي مبارك علي ميدان التحرير في تلك الليلة, ولكن يبدو أنهم لم يكونوا البلطجية والمأجورين بل المؤيدين لمبارك حقا, أو ربما كانوا في انتظار تجميع صفوفهم وهو ما حدث في اليوم التالي, حيث انطلقت مسيرة حاشدة من اتحاد العمال تتقدمها عائشة عبدالهادي وزيرة القوي العاملة السابقة, التي أعياها الهتاف لمبارك لتدخل كي تستريح في مدخل جريدة الأهرام, لقد حانت ساعة الصفر. و نزلت أنا وزميلي أحمد هواري من الأهرام في الساعة الثانية ظهرا تقريبا, للذهاب إلي ميدان التحرير كالمعتاد, لكننا اكتشفنا أننا نسير وسط مؤيدي مبارك وأن هذا التحرك غير مريح ولا يبدو عفويا, وكنت أصور بكاميرا الفيديو التي استخدمتها لتسجيل ما يجري حولي في مدخل ميدان عبدالمنعم رياض فإذا بأحدهم يمنعني من التصوير ولا أدري السبب, بينما بادرني آخر بسؤال أنت مع مين؟, فأحسست بقلق من احتمال تعرضنا للأذي خاصة وأننا وسط العشرات منهم, فأجبته مع مصر, فكرر السؤال بنبرة أكثر حدة قائلا يعني أيه؟, فقلتي له مع مبارك, ليتدخل شخص ثالث ويقول له خلاص سيبه. وتحركنا أنا وزميلي لدخول الميدان وقبل بلوغنا الحواجز الأمنية فوجئنا بهجوم خيول وجمال وعربات تجرها خيول علي المعتصمين في التحرير, وبدأت الاشتباكات بالحجارة بين الجانبين وهنا افترقنا أنا وزميلي بعد محاصرتنا في المنتصف بين الطرفين إلي أن نجحت في الدخول إلي الميدان. وبدأت أصور لقطات لاعتداء المؤيدين المزعومين لمبارك علي المعتصمين من فوق إحدي الأشجار ومن فوق الدبابات التي كانت تقف علي الأجناب بعدما أغلقت أبوابها علي الجنود بداخلها غير معنيين بما يحدث في الخارج, كما ساعدت بعض الصحفيين الأجانب في فهم ما يحدث. وهنا كان الشباب قد نجحوا في إبعاد المعتدين إلي ميدان عبد المنعم رياض, وبدأت أبحث عما يمكن أن أساعد به في صد هذه الهجوم البربري فوجدت بعض المتظاهرين يكسرون بلاط الرصيف وينقلونه إلي الشباب في المقدمة فأخذت أساعد في نقل بعض هذه الحجارة. وإلي من يشككون في سلمية الثورة أقص عليهم بعض المشاهد, عندما هجم أصحاب الخيول والجمال كان بعض المعتصمين ينجحون في الإيقاع بمن يركب الحصان والإمساك به ويوسعونه ضربا, لكن الهتافات كانت تعلوا مدوية سلمية سلمية, حتي لا يتطور الأمر ويلقي هذا الشخص حتفه قبل تسليمه لقوات الجيش. كما دار حديث بيني وبين رجل في حوالي الخمسين من عمره كان يكسر بلاط الرصيف لتوفير طوب للشباب يقذفونه علي المعتدين, لكنني لاحظت أن الأحجار كان حجمها كبير لدرجة أنه لو سقط أحدها علي رأس شخص لربما قتله في الحال, فقلت له اكسرها لقطع أصغر فنحن نريد الدفاع عن أنفسنا وليس قتل أحد, فقال بغضب ولكنهم يريدون قتلنا, فقلت له لكننا لسنا قتلة فرد قائلا نعم, واستجاب لي بالفعل وبدأ يكسر البلاط لقطع أصغر وما أجده منها كبيرا أرده إليه ليكسره مرة أخري قبل أن أحملها في بطانية, بمفردي أو بمساعدة آخر, إلي الشباب في المقدمة. لا أخفيكم سرا أنني شعرت للحظات أننا ربما نموت في الميدان بسبب ضراوة الهجوم علينا, ولكن ما كان يشجعني هم هؤلاء الشباب الذين قهروا الخوف وتحدوا آلة القمع الأمني في الفترة من25 إلي28 يناير, واقتناعي بأنهم لن يتراجعوا أمام مجموعة من المأجورين والبلطجية الذين يعتدون عليهم مقابل أجر وغير مستعدين لفقدان حياتهم, بينما هم يدافعون عن حلمهم في تغيير وجه مصر والتخلص من نظام فاسد قضي علي آمال وطموحات المصريين ودمر البلاد علي جميع المستويات. كيف تنتصر إرادة نظام فاسد ظلم المصريين علي مدي30 عاما وحرمهم من أبسط حقوقهم واحتقرهم ورسخ فيهم الإحساس بالدونية أو العجز, أمام إرادة شباب كلهم تصميم وإيمان بحق الجميع في العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية, وهي الشعارات الرئيسية للثورة وهتافات الملايين علي مدي18 يوما حتي الإطاحة بمبارك. نعم يستحق ما حدث في الثاني من فبراير أن يطلق عليه لفظ معركة فقد حدث العديد من الكر والفر بين الجانبين, كما استخدم المعتدون تكتيكا حربيا بفتح جبهات اشتباك متعددة بالهجوم من شوارع جانبية أيضا بالتزامن مع الهجوم الرئيسي من عبدالمنعم رياض, فقد شهدت هجوما ثانيا من شارع شامبليون وكان المعتصمون يلجأون للطرق علي الأسوار الحديدية للأرصفة للتنبيه من أي هجوم ولتحذير المهاجمين من أننا متنبهون لهم. وفي مفارقة عجيبة كان من جاءوا ليعتدوا علي المعتصمين من شامبليون يرفعون أعلام مصر وعلما ضخما لا أدري كم طوله وربما كان هذا علم تحرير الميدان من العملاء وأعداء مصر, لكن الثوار استولوا علي هذا العلم وأخذوه ليطوفوا به الميدان في مشهد مهيب دمعت فيه عينيي وارتجف قلبي وتيقنت أن الله ناصرنا لا محالة. إن التراجع والانهيار في تلك اللحظة كان يعني مقتل عشرات أو مئات المعتصمين وموت الثورة والحلم الذي راودهم, ولكن هيهات أن يحدث ذلك فكان كل شئ يجري في تناغم كبير, فعندما يعود للخلف أحد المشاركين في الاشتباك كان يبلغنا بما يحدث في المقدمة ويطلب ممن لديهم القدرة أن يدعموا الصفوف الأمامية, وتكون الاستجابة سريعة. ودخلت إلي داخل الميدان وتوجهت إلي المستشفي الميداني أمام مطعم كنتاكي الذي كان مغلقا, رغم الاتهامات الكاذبة التي روجها البعض في التليفزيون الحكومي بأن من في التحرير يتلقون يوميا وجية كنتاكي و100 جنيه أو100 يورو أو100 دولار حسب تعدد الروايات. وشاهدت شبابا من أنبل وأطهر من أنجبتهم مصر وهم ينزفون دما, لكنهم لم يكونوا هم من ينزفون بل ضمائر كل من سمح بهذه الجريمة في حق متظاهرين سلميين لم يحطموا زجاج شركة أو محلا أو شباكا طوال الاعتصام, ومما يبعث علي التفاؤل والثقة في أن هذه الثورة ستنتصر يإذن الله أن بعض المصابين كانوا يضمدون جراحهم ويتوجهون إلي جبهة الاشتباك ومنهم من كان يعود مصابا مجددا. وهناك أمر لابد أن يفسره أحد, لماذا وقعت معركة الجمل ؟ لقد تحدثت إلي أحد الضباط لماذا لا توقفوا هذه الجريمة؟, فأجاب بأنه علي من سيطلقون النار الجميع مصريون ويعبرون عن رأيهم, فقلت له أنا لم أقصد أن تطلق عليهم النار, بل تفصلوا بين الطرفين لتوقفوا الاشتباكات. وغادرت الميدان في نحو التاسعة والنصف مساء عائدا إلي الأهرام حتي أتمكن من العودة إلي منزلي, وتابعت بقية الأحداث عبر الفضائيات. ورغم استمرار الاشتباكات حتي الثامنة والنصف من صباح الخميس خرج علينا رئيس الوزراء آنذاك الدكتور أحمد شفيق في مؤتمر صحفي ذلك اليوم ليقول إنه لم يعلم بما حدث وأنه سيحقق في الأمر لمحاسبة المسئولين, وأتساءل هل الدكتور شفيق كان مسافرا من الثانية بعد ظهر الأربعاء حتي ظهوره في المؤتمر الصحفي؟ وعموما الإجابة واضحة, ففي عصر الخميس نفسه تكرر الاعتداء علي المعتصمين, وكنت شاهدا عليه أنا وزميلي أيمن عبدالعزيز, فلا أدري هل لم يعلم رئيس الوزراء بذلك أيضا؟, وأعتقد أن عليه أن يجيب عن هذه الأسئلة وسبب عدم تحركه لوقف هذه الجريمة المستمرة ليومين قبل التفكير في الترشح للرئاسة التي لولا الثورة ما كانت هناك انتخابات من أي نوع, ونسيت أن أشكره علي البونبوني الذي وصل ولكن في صورة أخري.