ها هو الداخل التركى المتأزم مستمر في ضغوطه الهائلة ، بيد أنه لا يترك للقائمين على أمور البلاد والعباد أية فرصة للتفكير وبحث البدائل الشرعية والناجعة ، فالانتخابات المحلية على الأبواب فليس أمامها سوى أسابيع تعد على أصابع اليد الواحدة ، وحينها قد يكرم الحكم أو يهان ، وصار معلوما أن سبل النجاح الذي اعتاد عليها الحزب الحاكم طوال عقد من الزمان ، تتقطع مع الانسحابات والانشقاقات وموجات الاستقالات من "جنة العدالة " . فى السياق المتأزم تطل الأوضاع المعيشية بنظرات مملوءة يأسا فالاقتصاد بعد أن كان يوصف بالناشئ العملاق ، بات يفصح عن تراجع في مؤشراته، ورغم ارتفاع الفائدة بقرار البنك المركزى ، إلا أن الليرة تأبى أن تستقر أو أن تتوقف عن التدهور الذي أصابها منذ إندلاع فضائح الفساد، إضافة إلى كل ذلك عجز تجارى بمليارات الدولارات ولابد من تعويضه، من هنا طرح التساؤل أين المخرج من تلك الدوامة العاصفة ؟ الإجابة قطعا ليست هينة أو سريعة ، فأفق المحلى مسدود حتى إشعار آخر والسياسة الخارجية وقد نعتت ولازال بالتخاذل ، والمراقبون يشددون من جانبهم ، على أن ما يوجه لها ليست إتهامات بل هى الحقيقة مهما كانت قاسية فهذا الواقع يدللون على ما ذهبوا إليه بفشل سياسة صفر مشاكل التي إنتهجها صانعها أحمد داود أوغلو ، وتحولها إلى الألف مشكلة تاركة غصة في حلوق الاتراك الذين كانوا يرون أن الأداء الخارجي لجمهوريتهم لم يكن بمثل هذا السوء الحاصل إعتبارا من 2005 ، ولعل سوريا خير مثال على ما آلت إليه الدبلوماسية التركية من تخبط ، في حقبة حزب العدالة والتنمية الذى يواجه منذ شهر نصف أزمة عاتية قد تعصف بحكمه وفى أفضل الأحوال لن يخرج منها سليما معافا. بيد أن تركيا سقطت في المستنقع الدامى في حين كان يمكنها تجنبه. لكن لا بأس من طرق أبواب الجيران ، وبطبيعة الحال ليس بينهم سوريا ، وبدرجة أقل الهلال الخصيب ، وبالتالى ليس هناك سوى الجارة الفارسية العتيدة وفي محاولة رئاسية ، هى من قبيل ذر الرماد في العيون أكثر منها أى شئ آخر ، وبعد ضياع نفوذ الأناضول على أطراف الصراع في الشام ، دعا الرئيس التركي "عبد الله جول" السبت الماضى إيران للتنسيق مع بلاده لدعم جهودهما المشتركة للوصول لحل للأزمة السورية ، لم يكن أول إعتراف بسطوة حكام الملالى في الدولة الفارسية طالما حاولت أنقرة الأردوغانية التقليل من ثقلهم وفاعليتهم ، ففى خلال لقائه مع نظيره الإيرانى الرئيس حسن روحانى على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك قبل أربعة شهور شدد على ضرورة تنسيق التعاون بخصوص الشأن السورى ، ولم ينس الرجل أن يرحب ويثنى على إنتهاج أسلوب الحوار والحل السلمى مع طهران بخصوص برنامجها النووى مؤكدا أنه سيعم على المنطقة بالكامل بالسلام العالمى . فى المحصلة أذن ، تتكشف وريثة الأمبراطورية العثمانية متأخرة كالعادة ، أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هى من تملك مفتاح الحل أو على الأقل جزءا منه حيال معضلة دمشق الأسد، وهو ما عكسته بشكل أو بآخر وكالة الأنباء الإيرانية ، عندما نقلت عن جول قوله " إن إيران تعتقد أن هناك المزيد من الفرص لحل الأزمة السورية المشتعلة". تلك الأجواء التي حرص صناع القرار في العاصمة أنقرة أن تكون مخلصة ، لم يكن هناك مفر من تفعليها، بإتجاه الأمام والابتعاد ، أيا كانت المغريات ، عن كل ما من شأنه تعكيرها ، ففى دافوس لم يشأ وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أن ينجر إلى إستفزاز يعيد مشاهد رئيسه قبل سنوات في ذات المكان والشهيرة ب" وان مينت " One minute عندما هب غاضبا ومنسحبا من القاعة إحتجاجا على كلام الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز. فإردوغان كان يحزم حقائبه استعدادا لزيارة القيادة السياسية والروحية في إيران، ومن المستحيل أن يقع وزير خارجيته في فخ مدير الحوار الذي أراد تأجيج اشتباك من هذا النوع المذهبى ويبدو أن هذا الموقف بجانب مواقف أخرى سرعان ما قوبل بإستقبال حار وغير عادى من القيادة الإيرانية لضيفهم وزاد مرشد الثورة علي خامنئى على ذلك بوصفه العلاقة بين بلاده وجارته الاناضولية بأنها منقطعة النظير. هذا لا يعنى أن الخلافات العميقة بين أنقرةوطهران بشأن الصراع في سوريا وئدت ، لكن أردوغان ماض في مساعيه لتعزيز العلاقات الثنائية مع إيران، على الرغم من «نصائح» أميركية بالتريث وعدم التسرع ، " فالوقت لا يزال مبكرا للانفتاح على هذه الدولة المشاغبة وأن المزيد من التعاون معها ليس فكرة جيدة " هذا ما قاله وزير الخزانة الأمريكية ديفيد كوهين لأردوغان فى الليلة التي سبقت سفره لطهران ، فزعيم العدالة والتنمية أيقن على نحو لا يداينه أى شك فى أن الجمهورية الإسلامية لها اليد الطولي في الحرب الدائرة بالاراضى السورية ، ولا داع لمناقشات لن تؤدي إلى تغيير قناعاتها ، وهكذا حل هذا الملف ثانيا فى محادثات رئيس الحكومة التركية مع المسئوليين الايرانيين ، فمسئول إيراني أشار إلى أن الطرفين يدركان "حجم الهوة في موقفيهما "، لكنهما متفقان على اعتماد سياسة تحييد الملفات". وضرورة معالجة الأوضاع الإنسانية بصورة مستقلة عن الخلاف السياسى في سوريا، وإعطاء الأولوية لتخفيف المعاناة التي تصيب السوريين جراء الصراع ، كلام إنشائى لكن المهم هو ما أختتم به تصريحاته نافيا أن تكون هناك مبادرات مشتركة فيما يخص الموضوع السورى، لكن الطرفين اتفقا على مقاربة الموضوع بإيجابية ومحاولة الوصول إلى قواسم بينهما. أما ما تصدر المناقشات فقد تمحور حول الحوار والاتصالات التي دخلت مرحلة جديدة بما يخدم صالح البلدين، وهو ما ترجمه الأتراك بتعظيم التعاون الاقتصادي والتجارى خاصة بعدما ترفع العقوبات المفروضة حتى ولو جزئيا على إيران بالتوازى مع إحراز تقدم في ملفها النووى. وبالفعل وقعت خمسة إتفاقيات ولتنفيذها بأسرع وقت إستطاع أردوغان أن يحصل على رضاء أصدقائه الايرانيين بترحيبهم مبدئيا بتشكيل مجلس وزراء واحد مشترك " في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة وجميع الشؤون الحيوية " ،ويحيث يقفز حجم التبادل التجارى إلى ثلاثين مليار دولار في العام القادم.