هناك ملامح كثيرة نقيس بها مستوي الثبات والتغير في المنطقة, لكن تظل مصر بوصلة أساسية لتوجهات اللاعبين, وتحديد نجاح أو فشل ترتيباتهم. وقد جري اختبار هذه المسألة العام الماضي, ما أكد أن القاهرة مركز ثقل لا يستهان به. فكيف سيواجه هذا المركز التطورات, بعد أن دخلنا عام التحولات الإقليمية بامتياز؟ لم تكن نتائج ثورة30 يونيو محلية صرفة, بل أسهمت حصيلتها في تخريب بعض المخططات, التي راهن أصحابها علي بقاء جماعة الإخوان في الحكم. كما أنعشت الأمل لدي بعض الدوائر العربية للافلات من مصيدة تصورات أعدت لتغيير خريطة بلدانهم. وبقدر الخشونة التي مارستها قوي شريرة للايقاع بمصر, وجدنا قوي أخري تغدق في كرمها الاقتصادي ودعمها السياسي. الأولي, لا تزال تتعلق باحتمال نجاح سيناريو ارهاقنا وادخالنا في أزمات متتالية, طمعا في إضعاف قدرات الدولة والفشل في الخروج من دوامة المشكلات المتلاحقة, وكانت عناصر الإخوان والإرهابيين أهم الأذرع للوصول لنتيجة مرضية, أو قياس درجة الاستجابة للضغوط المستمرة, جريا وراء وقف أي توجهات لاستقلال القرار الوطني. والقوي الثانية, تواصل دعمها, لأن مصر أصبحت هدفا لاستثمار استراتيجي حقيقي, لمواجهة مؤامرات وتربيطات كبيرة, في مرحلة مليئة بالتقلبات. كما أن لديها مقومات لضبط ايقاع قضايا مهمة, ومنع انفلاتها بما يحافظ علي بمصالح بعض الدول العربية الشقيقة. نحن أمام تحركات سريعة لوضع تسوية للأزمة السورية, تقوم فيها قوي اقليمية ودولية بأدوار مختلفة ومعقدة. وحسب شكل التسوية وطريقة حسمها سوف يتزايد نفوذ البعض ويتقلص نفوذ آخرين. وهي في النهاية تخضع للعبة توازنات دقيقة, متشابكة مع ملفات قريبة. بمعني أن تنازلات إيران مثلا في سوريا, من المؤكد أن تقابلها مكاسب لطهران في أزمتها النووية مع الغرب. وهكذا الحال بالنسبة لكل من روسيا والصين وأطراف غربية أخري. كما أن الأطراف المحلية, خاصة المتطرفة, لن تكون بعيدة عن هذه المعادلة, لأن تصرفات معظمها تخضع لإرادة قوي اقليمية ودولية أيضا. وسواء نجح مؤتمر جنيف2 المقبل في التوافق حول آلية لتقسيم الكعكة السورية, أو فشل, وتركت هذه الدولة في أيدي, هواة ومغامرين ومتربصين ومتآمرين, فإن التأثيرات سوف تصل إلينا, لأن عددا من اللاعبين في الفضاء السوري, الولاياتالمتحدة والمتشددين الإسلاميين وتركيا وقطر وايران, لهم جيوب وأدوات تتحرك في مصر بصورة سلبية. من جهة أخري, التفاؤل الظاهر في ملف العلاقات الأمريكية- الايرانية, يؤكد أن واشنطن لديها توجهات جديدة, وتديرها بمرونة أو نعومة عالية. فالخلاف الذي دخل مرحلة الصدام المباشر وقوي الشر والشيطان والهيمنة وتصدير الثورة, مفردات اختفت لحساب الوئام والتفاهم وربما التحالف, وقد تتحول طهران إلي شرطي لمنطقة الخليج. الأمر الذي ينعكس علي دوله العربية, ويهدد مصالحها الاستراتيجية, ويشير إلي أن العام الذي هل علينا سوف يشهد تغيرات درامية. وهو ما استشعرته بعض دول الخليج, ووجدت أن مصر هي القوة المحورية التي يمكن الاعتماد عليها, لمواجهة هذا النوع من التحولات, التي تعيدنا إلي بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي, عندما تم تشكيل ما يسمي بدول إعلان دمشق من مصر وسوريا ودول الخليج الست, لملء فراغ أمني, نجم بسبب تدمير العراق, وصد طموحات إيران في المنطقة, لكن نجحت واشنطنوطهران في وأده قبل أن تدب فيه الروح. لذلك تقف دول مثل, السعودية والإمارات والكويت, خلف دعم مصر الآن, لتجاوز محنتها والاستعداد للقيام بدورها في الدفاع عن شقيقاتها. الواقع أن سلسلة التغيرات المتوقعة لن تقف عند سورياوإيران والخليج, لكن ستصل حتما إلي فلسطين, فلا تزال خطة كيري للسلام تدور حولها نقاشات متعددة, بصورة تفرض علي مصر زيادة جرعة التنسيق والتعاون مع الرئيس أبو مازن, وإيجاد وسيلة لمعالجة الوضع الشاذ في قطاع غزة, لتحاشي الوقوع في فخ تسوية مبتورة, متاعبها أكثر من فوائدها. ومهما يبلغ الانصراف عن القضية الفلسطينية, إلا أنها ستظل أحد أهم مرتكزات الأمن القومي لنا. في كل الأحوال تتطلب عواصف التحولات الاقليمية المنتظرة, توافر ثلاثة عناصر رئيسية, حتي تكون مصر مركزا ومحركا ومؤثرة في التفاعلات المقبلة. الأول, وجود رئيس جمهورية يملك حنكة سياسية, وعلي دراية كافية بمقومات الأمن القومي, ليستطيع التعامل مع أي تحولات درامية في المنطقة, ويسد المنافذ الدبلوماسية التي يمكن أن تدخل منها رياح القوي الساعية لممارسة ضغوط قاسية. والثاني, المزيد من توثيق العلاقات مع دول الخليج الرئيسية, لضمان ضخ استثمارات, وتجاوز جانب من العثرات الاقتصادية. وإعادة الاعتبار للدائرة الإفريقية, للحفاظ علي حصة مصر من المياه, وتقليص محاولات استهداف مصر, أو التلاعب بأمنها من البوابة الجنوبية. والثالث, المضي في سياسة تنويع مصادر السلاح, والانفتاح علي قوي عالمية, علي استعداد لتطوير علاقاتها مع مصر, بما يعزز موقفها اقليميا. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل