غريب أن يكون أمام مستخدم الإنترنت آلاف بل ملايين المواقع التي تقدم معلومات وأخبارا وآراء عن كل شئ وأي شئ ثم بعد فترة يكتفي ببضعة مواقع تبث ما يتفق مع أفكاره واتجاهاته وانتماءاته. والأغرب أن تتيح له شبكات التواصل الاجتماعي( فايسبوك وتويتر وغيرهما) أن يتواصل مع كل أحد وأي أحد في أي مكان في العالم ثم بعد فترة تقتصر قائمة معارفه علي من يتفقون معه في الرأي أوفي الذوق أو في الانتماء.فليس غريبا إذ ن ولأمر كذلك أن تخرج دراسات في السنوات الأخيرة وفي أوج عصر المعلومات والتواصل الرقمي تتكلم عن' القبيلة'' والعشيرة'' والتعصب'علي شبكة الإنترنت! فالمواقع التي يتابعها مستخدم الإنترنت بانتظام يعرف منها أخبار' قبيلته' سواء كانت جماعة أو حزبا أو دينا ينتمي إليه أو فريقا يشجعه أو شركة يفضل شراء منتجاتها عن غيرها أو حتي فنانا يحبه. وشبكات التواصل الاجتماعي هي' دار المناسبات' التي يتواصل فيها مع باقي أفراد القبيلة يستقوي بهم ويستمد من الانتماء إليهم قيمته.وهذا الأمر لا يقتصر علي مستخدمي الإنترنت وشبكات التواصل في مناطق معينة من العالم, ولا علي فئة معينة بل يحدث في كل مكان وفي كل طبقة, ولكن بدرجات متفاوتة! النموذج' ألفا' والكهوف المنعزلة في1997 وقبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وانتشارها علي هذا النطاق غير المسبوق, قام اثنان من رواد علم الشبكات في العالم: الأمريكي' ستيفين ستروجاتس' والكندي' دانكن واطس' ببناء نموذج علي الحاسب الآلي أطلقوا عليه' النموذج ألفا' عبارة عن شبكة كبيرة تحاكي شبكة العلاقات بين البشر. وكان من ضمن النتائج التي توصلا إليها وذكرها' واطس' في كتابه' الدرجات الست وأسرار الشبكات' في2003, أنه في حالة تيسر التواصل بين البشر: أول ما يخبرنا به النموذج' ألفا' إما أن العالم سيتجزأ إلي الكثير من التكتلات الصغيرة, كالكهوف المنعزلة, أو سيتصل في صورة كيان واحد ضخم يمكن لأي شخص أن يتصل بالآخر في إطاره. ليس من الممكن علي سبيل المثال وجود كيانين كبيرين أو حتي مجموعة صغيرة من الكيانات الكبيرة يقسم فيما بينها العالم بالتساوي. ويضيف' واطس': قد تبدو هذه النتيجة مدهشة, لأن العالم يبدو عادة مقسما عبر الحدود الجغرافية أو الإيديولوجية أو الثقافية إلي عدد صغير من الطوائف المختلفة: الشرق والغرب, الأسود والأبيض, الغني والفقير, اليهودي والميسحي والمسلم. ومع أن هذه الانقسامات قد توجه أفكارنا, ومن ثم تؤثر علي أفعالنا بصورة كبيرة, فإن ما يخبرنا به النموذج ألفا هو أنها لا تنطبق علي الشبكة نفسها, فنحن إما متصلون اتصالا وثيقا, أو غير متصلين علي الإطلاق, وليس هناك وسط بين هذا وذاك. ثم تأتي فاعلية الفرد داخل هذه الشبكات فهي تحدد في أي اتجاه تتطور هذه الشبكات: التفتت إلي كيانات صغيرة وكهوف منعزلة, أو التحول إلي كيان واحد ضخم يتواصل فيه الجميع.و في حالة ظهور الكهوف المنعزلة فإن الأفراد الذين يتمتعون بالثقافة والتميز يمكن أن يشعروا بالانعزال داخل مجتمعاتهم الصغيرة, وقد لا يزعجهم هذا الأمر, لكن يظل يراودهم شعور يستحيل التغلب عليه بابتعادهم عن الغالبية العظمي من العالم, والمختلفة تماما عن النسبة الضئيلة نسبيا من الأشخاص الذين يعرفونهم بالفعل. وعلي عكس المتوقع, يبدو أن سيناريو التفتيت والكهوف المنعزلة هو السيناريو الغالب, علي الأقل حتي الآن!فكيف حدث( ومازال يحدث) ذلك؟ ولماذ؟ الإجابة القصيرة والسريعة هي أن ذلك يحدث لأن الإنسان يريحه ذلك, ولأن التكنولوجيا تساعده علي ذلك, ولأن هناك شركات تستفيد من ذلك. وفيما يلي تفاصيل الإجابة. محركات البحث: مزيد من الاستقطاب ومزيد من الأرباح للوصول إلي ما تريد علي شبكة الإنترنت أمامك مساران: الأول أنك تعرف رابط موقع تريد زيارته وتبدأ رحلتك في تصفح الإنترنت من هناك, أو تقوم بالبحث عما تريد باستخدام أحد محركات البحث مثل جوجل وياهو وبنج. تكتب كلمات قليلة في محرك البحث تلخص ما تبحث عنه, فتظهر لك مجموعة من وصلات المواقع التي' يعتقد' محرك البحث أن بها الإجابة علي ما تبحث عنه. ومع تكرار عمليات البحث يتوفر لدي محرك البحث'أرشيف' أو' بروفايل'لكل مستخدم له يسجل المواقع التي يفضل زيارتها وأحيانا الموضوعات التي يحب القراءة فيها بالإضافة إلي مكان المستخدم( الدولة أو المدينة). وبمرور الوقت يصبح محرك البحث أكثر' حساسية وتفهما' لآراء المستخدم واهتماماته وانتماءاته السياسية والعرقية والدينية ولعاداته الشرائية, من ناحية, وما يفضله من منتجات من ناحية أخري, فيوفر له محرك البحث المواقع التي تتفق مع هذه الانتماءات وهذه التفضيلات.فما يفعله محرك البحث هنا هو أنه يرسخ هذه الانتماءات أكثر فأكثر بما يقلل استعداد المستخدم لتغييره وقبول المختلف عنها أو التسامح معها أو حتي مناقشتها. لكن هذا يضمن في الوقت نفسه أن تكون الإعلانات المصاحبة لنتائج البحث التي يقترحها المحرك مرتبطة باحتياجات المستخدم ومنسجمة مع عاداته الشرائية فيزيد احتمال أن تكون هذه الإعلانات بداية لعمليات بيع وشراء يكون المستخدم طرفا فيها, وتحقق الشركة صاحبة محرك البحث أرباحا من ورائها, تصل إلي عشرات المليارات من الدولارات في العام الواحد. والخلاصة أن هذه المحركات تريد أن تريح مستخدميها بأن توفر لهم ما يحبون وما تعودوا عليه, لأن راحتهم هي ضمان أرباحها! الإنسان الرقمي نفس الشئ يحدث في شبكات التواصل الاجتماعي( فيس بوك وتويتر وغيرهما) ولكن بصورة أقوي وأوضح وأكثر مباشرة. فهناك دراسات تقول إن استخدام هذه الشبكات الرقمية' الحديثة' تحركه خمسة دوافع وسلوكيات أساسية' قديمة' قدم الاجتماع البشري, مع اختلاف أن بعض هذه السلوكيات والدوافع لم تكن مقبولة قديما ولكنها الآن مقبولة في المجتمع الرقمي, وبعضها كان نادرا أن يجتمع في شخص واحد ولكنها الآن' متعايشة' داخل' الإنسان الرقمي'. فمستخدم هذه الشبكات يحاول أن يكون نافعا للآخر يتبادل معهم معلومات أو خبرات وتجارب ومواقف شخصية يري أنها مفيدة لهم وقد تساعدهم في بعض قراراتهم.لكنه أيضا يبحث عن المتعة والسعادة في تواصله اللحظي مع آخرين والاستمتاع بأغنية أو مقطع من فيلم الخ الترفيه والألعاب والأخبار والنميمة والشائعات... وهو أيضا لا يري حرجا في أن يكون نرجسيا يشغل الآخرين بما يحب ويكره, وبما يفرحه ويحزنه, وبما أنجر.فقد أظهرت دراسات أجراها باحثون في جامعات ستانفورد وويسكنسون وميشيجان أيضا تزايدا ملحوظا في شعور مستخدمي شبكات التواصل بالنرجسية وتركيزهم بصورة كبيرة علي رغباتهم الشخصية بصورة أكبر منها عند من لايستخدمون هذه الشبكات.وهو أيضا قد تسيطر عليه عدوي التقليد ونقل الأفكار عن الآخرين, فما أن تنجح فكرة ما في أن تحوز الإعجاب حتي يقوم الشخص بتقليدها, لكي يكون مثل الآخرين, ولكن ليس' كل الآخرين'.وهو أخيرا يحب أن ينتمي, وهذه الرغبة في الانتماء قد تكون الدافع الأساسي الذي يفسر كثيرا مما يحدث علي شبكات التواصل الاجتماعي. ومرة أخري: كيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟ الطيور علي أشكالها تقع من الطبيعي عندما يبدأ إنسان في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي أن يبحث عن آخرين يشبهونه اقتصاديا أو اجتماعيا أو دراسيا أو يشاركونه نفس الاهتمامات والأذواق والانتماءات ووجهات النظر حتي لو كانت تتسم ببعض التطرف والشذوذ عن المألوف من الأفكار. ومن الطبيعي أيضا أن يمثل هذا الانتماء جزءا كبيرا من قيمته الإنسانية وأن يشعره بالأمان وبالحرية في أن يعبر عن رأيه بجرأة وبصراحة دون أن يكون مضطرا لأن يبرره لأحد.وفي هذه البيئة الكل متفق, فهذا سبب تكتلهم هناك في المقام الأول, ولا مساحة للاختلاف الذي يتيح فحص الآراء وإقامة الحجة, فلا حاجة لذلك, فالصوت واحد والكل متفق.فالآراء والمقولات والمعلومات والأخبار التي تصب في مصلحة القبيلة يتم- دون أن تناقش- تداولها ونشرها بسرعة وعلي أوسع نطاق, ومع الوقت يصبح من الصعب شرحها لمن هم خارج القبيلة, بينما يتم فحص الآراء والأخبار القادمة من خارج القبيلة ومحاولة إيجاد أدلة علي خطئها, فالافتراض المسبق أنها خاطئة. حروب القبائل الرقمية: التكنولوجيا تسهل ذلك وفي هذا الجو أيضا يظهر ما يعرف في علم النفس الاجتماعي ب' الاستقطاب الجماعي' والذي يتلخص في أن الأشخاص في جماعة يميلون إلي اتخاذ قرارات أكثر تطرفا من القرارات التي يتخذها كل شخص منهم بمفرده. وقد أظهرت دراسة أخري لمركز بيو أن هذا الاستقطاب تزيد حدته بين الجماعات المتحاورة علي شبكات التواصل الاجتماعي عن مستوي حدة الاستقطاب بين جماعات تتحاور وجها لوجه.وهذا الاستقطاب يتفاعل بطريقة كبيرة مع ظاهرة أخري هي انخفاض مستوي التحضر في النقاشات والتعليقات علي شبكة الإنترنت وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي. وقد أظهرت دراسات أن' قلة الذوق' هذه غالبا ما تتسبب في تزايد الميول العدائية من حدة في اللغة وغلظة في المشاعر خلال النقاشات الأمر الذي يؤدي في النهاية إلي تشبث كل طرف بآرائه وبشكل أكثر تشددا.وقد أظهرت دراسات أجراها باحثون في جامعات ستانفورد وويسكنسون وميشيجان علي عينة من طلبة الجامعات بالولايات المتحدةالأمريكية أن الاستخدام الزائد للإنترنت كوسيلة للتواصل الاجتماعي مع الآخرين أثر بصورة سلبية وملحوظة علي استعداد هؤلاء الطلبة للتعاطف مع الآخرين, وأن هذا التأثير السلبي يزداد عاما بعد عام. ونتيجة لكل ذلك وبسببه يحدث مع الوقت فصل عنصري رقمي وتتحول شبكات التواصل إلي غرف صدي وكهوف منعزلة, وتظهر القبائل الرقمية. وإن كان الأوائل قد عاشوا في قبائل وجماعات صغيرة من الأقارب والأصدقاء يتبادلون فيما بينهم معلومات ضرورية لبقائهم وأمنهم ويتجمعون حول نار ويحكون حواديت وحكايات تقربهم من بعضهم وتخلق بينهم ذكريات مشتركة. فنفس الشئ يحدث الآن علي شبكات التواصل الاجتماعي, فهناك علي هذه الشبكات قبائل من كل نوع في السياسة والرياضة والدين والاقتصاد والفن.والتكنولوجيا التي تقوم عليها هذه الشبكات تشجع ذلك وتجعله ممكنا وسهل التحقيق وبسرعة.فالعلاقات في المجتمع الرقمي تبدأ بضغطة زر, وتنتهي كذلك. وإثبات الانتماء إلي قبيلة ما وإعلانه قد تلخصه صورة مشتركة أو رمز موحد بين مجموعة من مستخدمي هذه الشبكات, وكلها أمور لا تستغرق ثواني أو دقائق قليلة. وكذلك الحملة ضد' عدو' القبيلة لا تحتاج سوي طوفان من ضغطات الأزرار يقوم بها أفراد القبيلة ضده حتي يختفي ويسكت صوته المعارض, بصرف النظر عن صحة ما يقول من عدمه. فالغلبة هنا للكثرة وليست للحقيقة!حدث ذلك مثلا عندما قامت مجموعات مؤيدة لإسرائيل علي فيس بوك( أحدها وأكبرها' جيش الدفاع اليهودي علي الإنترنت') بحملات للضغط علي إدارة الموقع لحذف مجموعات وحسابات علي الموقع تؤيد الانتفاضة الفلسطينية بزعم معاداتها للسامية ونشرها' لأدبيات الإرهاب', وكذلك لحذف' فلسطين' من قائمة الدول التي يتيحها الموقع لمستخدمه لكي يختار منها مكانه في العالم. وهذه التكنولوجيا لا تساعد علي التنوع أو الاختلاف لأنها' تحبس' مستخدمها داخل دائرة أصدقائه ومعارفه علي شبكة التواصل, من خلال اقتراحات تتم بصورة آلية بأن يفعل مثلما يفعلون ويحب ما يحبون.والخلاصة أن هذه التكنولوجيا تقدم لمستخدمها كثيرا مما يحب وقليلا مما يحتاج, والنتيجة أنها تقوي علاقة مستخدمها بأشخاص يعرفهم بالفعل تبعده أكثر وأكثر عن المختلفين عنه ومعه. بهذا تضمن الشركات صاحبة هذه الشبكات بيئة مريحة وجوا يساعده علي الانتباه إلي الإعلانات التي تبثها هذه الشبكات ويزيد الاحتمال بأن يدخل في عملية بيع وشراء تحقق الشبكات من ورائها أرباحا بمليارات الدولارات! قبائل المستهلكين: الشركات تستفيد من ذلك وفي نفس الوقت الذي ظهرت فيه دراسات' ستروجاتس' و' واطس' عن الشبكات الاجتماعية, كان هناك أيضا أبحاث في مجال التسويق والإعلان تقول بأن'نموذج القبيلة' من أفضل البيئات لازدهار الشركات والتسويق لمنتجاتها, حيث العلاقة بين المستهلك والمنتج علاقة شخص بقبيلة, وحيث علاقة مستهلكي نفس المنتج علاقة أفراد في نفس القبيلة. وما إن يسيطر علي المستهلك هذا الشعور القبلي يصبح ولاؤه للشركة والمنتج قويا وعلي استعداد بكامل إرادته أن يقوم بالتسويق المجاني للمنتج بين أصحابه ومعارفه. وهذا جعل مراكز الأبحاث في بعض الشركات تهتم بتصميم برامج قادرة علي اكتشاف' قبائل المستهلكين' لمنتجاتها علي شبكات التواصل الاجتماعي وتشجعها. وإن لم يكن تقوم الشركات بإنشائها بنفسها أو بالاعتماد علي شركات للدعاية والإعلان. وفي هذا الجو, ليس مهما أن يكون المنتج هو الأفضل لكي يحقق مبيعات أعلي, يكفي فقط أن تكون القبيلة التي تسانده هي الأقوي والأكثر عددا من قبائل المنتجات المنافسة. ومرة أخري, فالغلبة هنا للكثرة وليس للجودة. والخلاصة أن الكل الآن يستخدم التكنولوجيا لكي يرجع بالعالم إلي الوراء وإلي الكهوف المنعزلة كما يسميها ستروجاتس وواطس لأن ذلك يخدم مصالحهم: الحكومات والدول والأحزاب لمصالحها السياسية, والشركات لمصالحها الاقتصادية, والفرد وهو الأساس هنا لمصالحه النفسية!