أكد علماء الدين أن الخطاب السليم للدعوة يحتاج إلي إعداد الخطط العلمية التي تتوافق مع ظروف الناس المعيشية وتتناسب مع واقعهم الثقافي والاجتماعي وتلبي احتياجاتهم, مشددين علي أن الدعوة متجددة تتغير بتغير الأجيال والأحداث وتقوم علي نشر الإسلام الوسطي الذي يوحد الأمة ويحميها من الفرقة ويملأ الفراغ الفكري والديني لدي الناس بعيدا عن الفكر التكفيري والمتطرف. وطالبوا بإعادة تأهيل الدعاة, وإلمامهم بالعلوم الشرعية وحفظهم القرآن كاملا وإجادته تلاوة وأحكاما ومعرفة تفاسيره وتدبر معانيه والتفقه العميق في علوم الشرع والدين. وطالبوا بتهيئة المناخ العام للدعاة والعلماء وتحسين أحوالهم المعيشية للقيام بدورهم لنشر الفكر الوسطي للإسلام. يقول الدكتور طه أبو كريشة, عضو هيئة كبار العلماء, إن الدعوة شأنها شأن أي نشاط علمي لابد أن يقوم به ويتولاه المتخصصون في علومها والذين درسوا هذه العلوم علي اختلافها دراسة متأنية فاهمة وواعية. أما عن الحاجة إلي استنفار القائمين بالدعوة فمن غير شك أن هذا الاستنفار يختلف من وقت لآخر حسب الدواعي الموجودة في المجتمع قياسا علي الاستنفار الأمني أو الصحي أو البيئي, فكلما وجدت ظاهرة تدعو إلي زيادة الاستنفار فلابد أن تكون الأمة علي قدر هذا الاستنفار دون تأخر أو تباطؤ أو تردد ومن غير شك, خاصة أن الظروف الراهنة تستدعي الاستنفار الدعوي حتي نواجه الظواهر السلبية التي طرأت علي المجتمع وأبرزت صورا تشوه صورة الإسلام الحقيقية السمحة وكثير من حقائق الإسلام التي غاب منها في حاضرنا ما نشكو منه الآن. وأكد أن الأزهر يمتلك الكوادر التي تستطيع أن تقوم بهذا الواجب خير قيام إذا هيئت الأجواء والوسائل والأسباب التي تعين علماءه علي القيام بهذا العمل. وأوضح الدكتور الأحمدي أبو النور, وزير الأوقاف الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء, أن الداعية في مسجده وفي قريته يعد مربيا ومعلما وواعظا لكل من يهرع إلي مسجده أو إلي درسه, ويجب أن يكون أسوة للناس فيما يدعوهم إليه, فاقها لدينه دارسا لكتاب ربه مطلعا علي تفاسيره بالقدر الذي يجعله في كل مرة يلتقي فيه بجمهوره ينير بصيرتهم ويعالج قضاياهم التي يهتمون بها أو يبحثون عن حل لمشكلاتهم, ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان الإمام مهتما أشد الاهتمام بالاطلاع الواسع علي المراجع التي يلزمه أن يدرسها للموضوع الذي يحدث الناس فيه بحيث يشعر المصلي أنه يعود كل يوم بمحصول علمي يوقن بفائدته له ولبيته ولمجتمعه فيسارع إلي تطبيقه مع حرصه في الوقت نفسه علي أن يواظب علي الاستماع إلي إمامه لأنه في كل مرة يقف منه علي فائدة لم يعلمها من قبل أو حسن عرض الإمام لمعلومة قد عرفها من قبل الأمر الذي يجعل المصلين خلفه مشتاقين دائما إلي هذا الذي يدعوهم إلي الله بالحكمة وحسن الموعظة ويرتقي الإمام في قلوب الناس وعقولهم كلما تمكن من اللغة العربية وتحدث للناس ببلاغته وفصاحته الجامعة. كما طالب الدعاة بقراءة الواقع ومستجدات الناس والتعرف علي أحوالهم وهمومهم من خلال المتابعة المستمرة لوسائل الإعلام, وذلك لمعرفة مدي حاجة الناس إلي التعرف علي رأي الدين في قضايا بعينها, وكل ذلك يقتضيه أن يكون معينا علميا لا ينضب لكل من يهتدي بهداه, وبحيث يكون هو في قريته أو مسجده هو القامة والهامة والمرجعية لا سيما للشباب مع سماحته في الخلق وتواضع في النفس وزهد في ماديته. رقابة علمية وشدد علي أن التفتيش علي الأئمة ينبغي أن يكون للأساتذة الذين خرجوه وعلموه ولا يكون التفتيش من قبل زملائه الذين سبقوه في التعيين لبضع سنوات لأن الإمام لا يتأثر بتوجيه زميله كما يتأثر بتوجيه أساتذته, وإشراف الأساتذة وتوجيههم للأئمة في المساجد سينشأ عنه التقويم المنهجي لهم والتوجيه العلمي المستمر لطلابهم فضلا عن توافر الدراسات الميدانية لمناهج الدراسة في كليات الدعوة وأصول الدين ونحوها بما يتلاءم مع حاجة الدعاة في حياتهم العملية بحيث يحسنون المواجهة للشباب والمحاورة في القضايا المهمة كقضايا التكفير والإرهاب والعنف الأسري والمجتمعي. الإفتاء بغير علم ويوضح الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية, أن العمل في الحقل الدعوي يجب أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة مصداقا لقوله تعالي: ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فالدعوة كما حددها المولي عز وجل, تكون بالمنطق والحجة والإقناع لا بالعنف والإكراه, وبالموعظة الحسنة التي تصل إلي القلوب وتجعلهم يتبعون ويسمعون ويلبون, فالموعظة الحسنة التي لا شتام فيها ولا سباب وإنما تكون دائما باللطف واللين والرفق, ولا تكون بفرض الرأي بل بالمناقشة والوصول إلي الإقناع. وشدد علي أن مشكلات العمل الدعوي في مصر ترجع إلي دخول غير العلماء مجال الدعوة الإسلامية فيتحدثون بلا علم وبلا منطق وبلا دراية ويريدون أن يفرضوا منطقهم وفكرهم وتوجههم, وظهرت قنوات فضائية في مصر هدفها نشر أفكار وتوجهات معينة سيطر عليها كثير من غير العلماء فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا, ولذلك ينبغي أن تكون الدعوة مقصورة علي العلماء الذين درسوا وتعلموا وعرفوا الصحيح من الخطأ كما يعرفون درجات الحديث ومنازله ويعرفون أيضا المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والفقه بمذاهبه, وينشرون الفكر الوسطي الصحيح الذي نزل من عند الله ويقدمون الفكر المستنير الذي يبني ولا يهدم ويجمع ولا يفرق فوحدة الأمة الإسلامية فرض, قال تعالي إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون فيجب أن يعمل الجميع علي وحدة الأمة وتوحيد كلمتها وترابطها وتعاونها بعيدا عن تشتيتها وتقسيمها إلي فرق وجماعات وفصائل يكفر بعضها بعضا. وأضاف: أن تهيئة المناخ للدعاة والعلماء لنشر الفكر الوسطي للإسلام يحتاج إلي الاهتمام بالدعاة من خلال تحسين أحوالهم المعيشية حتي يتفرغوا للعمل الدعوي فبعض الدعاة يعملون في مجالات أخري لتحسين أحوالهم المعيشية مما يؤثر بالسلب علي عملهم الدعوي, وأيضا الجانب الأمني وتوتر الأحداث العامة يؤثر علي عمل الدعاة فالمشكلات الأمنية التي تمر بها مصر الآن يتأثر بها ويؤثر فيها. وفي النهاية فإن الدعوة آفة الدعاة الذين يحاولون أن يظهروا أنهم دعاة وأنهم الحفاظ علي دين الله وهم في الواقع يهدمون ولا يبنون فيجب أن نترك الدعوة للعلماء الذين درسوا وفهموا وعلموا حتي يكون للدعوة أثرها الطيب ووقعها الحسن وثمرتها المرجوة. القيادة الدعوية من جانبه أوضح الدكتور محمد المختار المهدي, عضو هيئة كبار العلماء, أن متطلبات العمل في الحقل الدعوي الواجب توافرها في الدعاة من أبرزها إخلاص النية لأنها رأس الأمر وبداية الطريق ومن دونها ليس للقائد في طريق الدعوة نصيب, وكذلك استشعار الهم العام, وتتبع أحوال المسلمين في جميع أنحاء العالم. وإصلاح الشأن مع الناس وأول من يبدأ بهم أهل بيته فيتفقد أحوال أهله وأولاده ويعلمهم أمور دينهم ويبر والديه ويصل رحمه ويبر جيرانه ويعدل بين الناس فيوفيهم حقوقهم في تعاملاته. كما يجب علي الداعية محاسبة نفسه فإخلاص النية هي بداية الطريق لمحاسبة النفس وهي الضمانة لحمايتها من الزيغ والانحراف فمحاسبة النفس هي باب من أعظم أبواب الرحمة يتفضل الله بتوفيق من يشاء من عباده اليها. وينصح الدكتور المهدي, القائمين علي العمل الدعوي بضرورة أن يستشعر أن الله قد اختاره علي ثغر من ثغور الإسلام فإما أن يكون حافظا له وإما مضيعا, واعلم أن حساب الخاصة ليس كحساب العامة, فهم أول الناس في المغرم وآخرهم في المغنم, وما يكون مندوبا في حق العامة قد يتعين وجوبه في حق الخاصة. بناء الإنسان الصالح وعن القواعد والضوابط التي يجب أن تحكم الخطاب الدعوي شدد الدكتور مجدي عبد الغفار الأستاذ بجامعة الأزهر ورئيس لجنة الدعوة بالجمعية الشرعية, علي ضرورة أن يكون المصدر الأساسي لصياغة مناهج الإسلام للخطاب الدعوي هو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ومنها مرجعية هذا الخطاب وضوابطه وهي مرجعية غير قابلة للتعديل ولا يعتريها تغيير بتغير الزمان والمكان, كما أن الخطاب الدعوي في التصور الإسلامي ليس خطابا ثيوقراطيا دينيا مقدسا, ولكنه خطاب إنساني يقع فيه الخطأ والصواب ويسمح فيه بالاجتهاد وعرض وجهات النظر المختلفة, كذلك التعبير عن الخطاب الدعوي يجب أن يكون أسلوبه عذبا وعباراته سلسة وكلماته رقيقة مدعومة بالحجة الناصعة والرهان والدليل القوي لأن الدعوة الإسلامية في الخطاب تستبعد العنف والغلظة وتشجع علي الحوار الهادئ والجدل المنطقي, فالدعوة الإسلامية ترفض الاستبداد الذي تتبناه الأنظمة الاستبدادية, كما ترفض الحرية المنفلتة التي تتبناها الأنظمة الليبرالية ومن ثم فإن اتفاقها أو اختلافها مع هذه الأنظمة في بعض النقاط لا يعني تبعيتها لأي نظام من هذه الأنظمة, كما أن المنهج الإسلامي يصوغ الضوابط والأخلاقيات التي تحكم نشاط الخطاب الدعوي ويأتي في مقدمتها الالتزام بالصدق مع النفس ومع الآخرين فلا يجوز الاجتهاد بغير معرفة ولا الفتوي بغير علم, ومن ثم فإن جوهر الخطاب الدعوي في المنظور الإسلامي يستهدف أولا وقبل كل شيء بناء الإنسان الصالح لأن بناءه هو الهدف والغاية حيث قال تعالي وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الذاريات(56). فالخطاب الدعوي السليم يحتاج إلي إعداد الخطط العلمية السليمة التي تتوافق مع ظروف الناس المتقلبة وتتناسب مع واقعهم الثقافي والاجتماعي, وتلبي احتياجاتهم, وتناقش مشكلاتهم في زمن أصبح الخطاب الدعوي هو المصباح الذي يسترشد به الحكام في وضع السياسات ومواجهة الأزمات.