بعد أن كادت تندثر العبارة الشهيرة التي سادت فيما مضي وهي: إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه, التي كانت تعبر عن أبهة العمل الحكومي وما يضفيه علي صاحبه من وجاهة اجتماعية حيث أصبح العمل بعد ذلك في القطاعين العام والخاص مطمحا للكثيرين لوفرة الدخل والتحرر النسبي من قيود روتين العمل الحكومي, إلا أن هذه العبارة أصبحت تتردد الآن بقوة بعد الأحداث التي ألمت بالوطن منذ ثورة25 يناير المجيدة وما تبعها من تراجع وانحسار أنشطة العديد من المنشآت والكيانات الاقتصادية وتوقف العمل بكثير من المصانع نتيجة لاضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد وأصبح الالتحاق بالوظائف الحكومية في هذه الظروف مطلبا للكثيرين من الخريجين, باعتبارها الوظائف الثابتة ذات الدخل المضمون, وقد تجلي ذلك واضحا في المسابقة التي أعلنت عنها مصلحة الضرائب أواخر العام الماضي لشغل عدد من الوظائف علي مستوي الجمهورية وهي:1475 وظيفة مأمور ضرائب,2964 وظيفة كاتب رابع, وكانت المفارقات كما جاء ب الأهرام أن عدد حاملي تقديري الامتياز وجيد جدا يفوقون أعداد المطلوبين للعمل بالضرائب, وأن عدد الذين تقدموا لشغل الوظائف المذكورة تجاوز23 ألف متقدم, أي بأكثر من خمسة أضعاف الوظائف المعلن عنها!.. بل إن من بينهم من تقدم لشغل وظائف أقل درجة من مؤهلاتهم. وإذا علمنا أن الحكومة أصدرت تعليماتها لجميع المحافظات بتعيين حملة الدكتوراه والماجستير حتي الحاصلين عليها منذ عدة سنوات ولم يعينوا بعد, لأدركنا علي الفور مدي أهمية مشكلة التشغيل بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية, ولعل ذلك يقودنا إلي المسائل المتفرعة عن تلك المشكلة الجوهرية التي يمكن أن نوجزها في النقاط التالية: إذا كان المتقدمون لشغل الوظائف التي يعلن عنها يفوق عدد الوظائف المطلوب شغلها بكثير مما يضطر الجهة المعلنة إلي تفضيل الحاصلين علي تقديرات عليا( ممتاز وجيد جدا), فما هو مصير آلاف المتقدمين الآخرين وهم الأكثرية ذوي التقدير الأدني من ذلك, وغالبا ما يكون تقدير جيد باعتباره الحد الأدني دائما لشغل أي وظيفة.. بالطبع لن يكون منطقيا تعيين هذه الآلاف, سواء في الجهاز الحكومي أو القطاعات العامة الأخري.. وتبقي مسئولية الدولة في هذه الحالة في توفير السبل وفتح آفاق أخري لتشغيل الشباب عن طريق تدعيم الصندوق الاجتماعي وتخصيص مزيد من الأراضي شريطة احتضان الدولة لمشروعات هؤلاء الشباب, وكذلك رجال الأعمال والمستثمرين وتقديم التسهيلات والامتيازات التي تعينهم علي إدارة مشروعاتهم وتنميتها بنجاح. تواجه جهة الإدارة مشكلة التباين في التقديرات العامة لصفوة الخريجين نتيجة اختلاف أسس التقدير بين الكليات المختلفة, بل وبين الجامعات ذاتها( حكومية وخاصة) وقد يكون من الضروري اضطلاع الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة علي الأقل بمعايرةstandardizarion مثل هذه التقديرات( إن جاز التعبير) لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع. إذا كان الحظ قد أسعد الذين وفقوا لشغل الوظائف التي أعلن عنها وكانوا غالبا من المتفوقين ومن حملة الماجستير والدكتوراه, فإن الأمل ألا ينزوي تفوقهم في غياهب الروتين الوظيفي, ويتعين علي جهة الإدارة أن تستفيد من إبداعات مثل هؤلاء العاملين في تطوير وتحديث نظم العمل وابتكار الطرائق التي تيسره وتنجزه حتي يتم إلغاء ما تعارف عليه الناس من أن: يوم الحكومة بسنة, فوت علينا بكرة يا سيد!. محمد فكري عبدالجليل