ربما لا يعرف عنه الجيل الجديد الكثير.. إذ لم يكن يوما تحت دائرة الأضواء الباهرة.. والإعلام.. و(البروباجندا).. وتلك الآلة الجهنمية التي تبث معها الدعايات الصاخبة والزائفة. انه مفكر من الرواد الذين ارسوا مع مسيرتهم الحافلة ورحلة عطائهم العظيمة قواعد النهضة العربية الحديثة.. انه المفكر والأديب الراحل إسماعيل مظهر(1981 1963) عكف الرجل علي العمل في صمت يقرأ.. يكتب.. يترجم.. يصدر المجلات الأدبية.. ينهل من العلوم.. ولا يكاد يتوقف عن العمل لحظة واحدة. في الريف.. حيث الحقول الخضراء الممتدة.. والأجواء البسيطة الفطرية الهادئة التي تتيح معها العمل المنظم بعيدا عن صخب المدينة وضجيجها وطنينها الذي لا يتوقف ارسي دعائم مشروعه العظيم.. عمل إسماعيل مظهر في الصحافة في بداية مسيرته ورحلة عطائه, إذ كان يكتب يوميات الجمعة في جريدة( الأخبار القاهرية) ثم كتب بعد ذلك في الصحف والمجلات الأدبية خاصة مجلة( المقتطف) ثم( العصور) التي أصدرها ورأس تحريرها, والتي اضطر بحلول الأزمة الاقتصادية العالمية الأولي, ان يوقف اصدارها ويعتكف في الريف بعض الوقت مواصلا عمله وبحثه الدؤوب. وخلال تلك الفترة قام إسماعيل مظهر بترجمة كتاب( أصل الأنواع) للعلامة داروين, وكانت هذه الترجمة بمثابة لبنة جديدة فارقة في مسيرته, إذ أدرك الرجل أهمية مجال( الترجمة) سواء في المجال العلمي أو الأدبي.. وكيف لا وهي جسر للتواصل واللقاء والمعرفة في مختلف مجالات الحياة بين الشرق والغرب.. لقد أدرك كاتبنا أنه كي ينهض الشرق من سباته العميق الذي يغط فيه.. وكي يمحو هذه الظلمات التي خيمت علي سماء وطنه لقرون طويلة ينبغي ان نقرأ إبداعات الغرب وننهل منها.. لنحرر عقولنا من تلك التقاليد الموروثة.. وهذه الأفكار القديمة البالية التي كبلتنا طويلا وجعلتنا نعيش في عوالم حالكة الظلام. لم يكن المشوار سهلا.. كان الطريق طويلا.. طويلا.. كان الرجل يملك بصيرة عميقة وثاقبة كرس حياته من أجل هذا الهدف النبيل: تنوير الفكر في الشرق والدفاع عن الحرية الفكرية والثورة علي الأوضاع الاجتماعية التي أرست معها دعائم الجهل والظلمات.. كانت مجلة( العصور) التي أصدرها في الفترة ما بين(1927 1930) بمثابة منبر حر, إذ حارب عبر صفحاتها جميع مظاهر التخلف التي كانت سائدة آنذاك. وفي سطورها انفجرت ثوراته, واشتعلت حروبه: حروب علي مرتزقة الأدب والسياسة والصحافة والدين. كما دافع من خلال منبرها عن الحرية الفكرية, فكان شعار مجلته ومنهج تفكيره في آن( حرر فكرك من كل التقاليد الموروثة حتي لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الاراء أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك, وسكن إليه عقلك, إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه). ترجم إسماعيل مظهر العديد من الكتب العلمية والأدبية من الإنجليزية. وعكف أيضا علي تأليف القواميس والمعاجم التي أثرت معها المكتبة العربية منها قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية وقاموس النهضة وقاموس الحيتان في اللغتين الإنحليزية والعربية. كما كتب مئات من المقالات في مجال السياسة والاجتماع والأدب والنقد.. بالإضافة إلي الكتب العلمية والأدبية التي الفها. هو طراز فريد من الرواد.. يعمل بدأب في صمت.. ودون جلبة وضوضاء فقط يضع نصب عينيه هدفا نبيلا طالما سعي إلي تحقيقه: تحرير العقول ونشر التنوير.. من بين( أكوام) الكتب العديدة التي تتزاحم فوق رفوف المكتبة المكدسة, التقطت يداي كتابه البديع: رسالة الفكر الحر.. تباريح الشباب, وهو كتاب فريد حقا, يحكي فيه إسماعيل مظهر عن طفولته المبكرة وصباه وشبابه, حيث كان يعيش في أرجاء قصر مترام حافل بالخدم والحشم والعبيد واجواء عائلية متشابكة تعكس معها ثقافات شرقية وموروثات قديمة تفتح وعي الكاتب عليها وهو بعد طفل صغير. ربما كانت هذه الأجواء الخاصة التي عاش الكاتب في غمارها حافزا قويا له لخوض رحلة التنوير التي عاركها طوال سنوات حياته. الكتاب أشبه في الحقيقة بحكايات ألف ليلة وليلة.. مملوء بالقصص العجائبية العذبة التي تجعلك مشدوها ومبهورا بكل تلك التفاصيل الصغيرة التي التقطها قلمه الموهوب. تحية ل.إسماعيل مظهر.. كاتب( الفكر الحر) المدافع عن( التنوير) فنحن أشد ما نحتاج إلي كلماته هذه الأيام.