تلك هي الدراما, أسرع طريقة لنسف أبواق التشدد لتحريم كل ما هو جميل وبديع, خاصة إذا كان متماسا مع المشاعر الإنسانية النبيلة التي بثها الله سبحانه وتعالي في نفوسنا من هنا لجأ المخرج هاني عفيفي والكاتب كريم عرفة بدهاء شديد إلي كتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف لتحويله إلي عمل درامي شديد الخصوصية نظرا لما يناقشه من رؤي وأفكار إيجابية حول مشاعر المحبين حتي وصفه الأدباء بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة علامات الحب ومظاهره وأسبابه, لاسيما أن مؤلف الكتاب هو ابن حزم الأندلسي أشهر فقهاء الإسلام في مواجهة تجار الدين حتي تعرض لمصادرة أمواله وحرق كتبه, بعد أن أطلقوا عليه ألقاب من قبيل منجنيق العرب, وسيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان.. الحب- أعزك الله- أوله هزل وآخره جد.. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف, فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة, إذ القلوب بيد الله عز وجل.. من هنا انطلق صناع العمل في تحديد هوية نصهم الدرامي, لتأكيد فكرة عدم تحريم الحب في الاسلام فما هي إلا مشاعر نبيلة ليس لمخلوق دخل في ولادتها بداخله, لأنه باختصار القلوب بيد الله, لذلك رصد ابن حزم كل أعراض الحب ومظاهره وأسبابه والفرق بين الحب والإعجاب, وكيف يجب ان يتصرف المرء في كل الحالات, حتي بدا وكأنه طبيب يصف الدواء لمرضاه علي اختلاف علاتهم, فعلاج الهجر مثلا يخالف علاج الوصل أو الغدر أو الحب من أول نظرة, وذلك من خلال قصص مختلفة وحكايات وأشعار عاشها المحبون, وهو في هذا يقول: والحب داء عياء وفيه الدواء منه علي قدر المعاملة, ومقام مستلذ, وعلة مشتهاة لا يود سليمها البرء, ولا يتمني عليلها الإفاقة.. يزين للمرء ما كان يأنف منه, ويسهل عليه ما كان يصعب عنده حتي يحيل الطبائع المركبة والجبلة المخلوقة. قرر المخرج هاني عفيفي ومعد العمل كريم عرفة استبدال الأبيات الشعرية صعبة المفردات والتي وردت في هذا العمل الأدبي المبهر إلي مجموعة من أغنيات كوكب الشرق ام كلثوم تتناسب مع معاني الكتاب, فما أن تجلس في بهو قصر الأمير طاز; ذلك المكان الأثري العتيق الذي اختاره المخرج لتقديم عرضه مستغلا مستوياته المختلفة, حتي تشعر وكأن آلة الزمن قد عادت بك إلي العصر الأندلسي بكل ما به من بهاء غلفتها روعة الإضاءة التي صممها ياسر شعلان والتي انتقل بها من ممثل إلي آخر بانسيابية شديدة تناسب رومانسية المشهد وعذوبته, ساعده في هذا المزيج الدرامي البديع بين الحكي والتمثيل والرقص المسرحي ومقطوعات الموسيقي الشرقية لعازفي بيت العود العربي, فقد تحول العرض إلي مباراة في الأداء أبدع فيها حمزة العيلي في دور ابن حزم بأدائه السهل الممتنع وصوته المسرحي الرخيم, فكان يتنقل بين مستويات المكان ليلقي رؤي ابن حزم وتفسيراته لمشاعر الحب المختلفة, حتي تشعر وكأنك بالفعل تجلس في حضرة الفقيه ابن حزم وهو يقول: العشق استحسان روحاني وامتزاج نفساني.. لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية, لا بد من هذا وإن قل, وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة.. تلك المعاني التي جسدها أمامه زملاؤه الممثلون في مشاهد تمثيلية تألق فيها أحمد زكريا وسارة عادل وسارة هريدي- تفصلها وصلات غنائية لكل من ندي موسي وماهر إسماعيل الذي سحر آذان الجمهور بصوته الطربي الأصيل لأغنيات ام كلثوم مثل عن العشاق سألوني وغيرها, علي أوتار العود لفادي عادل وشريف صبحي وقانون سارة نعمان وكمان حازم مجدي وتشيللو يوسف عبدالله, والحقيقة أن بهجة العرض لم تكتمل إلا برقصات مارتينا عادل وهاني حسن البسيطة المعبرة التي أظهرت لوعة المحبين في المواقف المختلفة بما يؤكد مقولة ابن حزم: من الناس من يقول إن دوام الوصل يودي بالحب, وهذا هجين من القول, إنما ذلك لأهل الملل, بل كلما زاد وصلا زاد اتصالا. في النهاية نجد أنفسنا أمام عرض متكامل الأركان متماسك البنيان لم ينقصه إلا ضرورة استخدام الممثلين للميكروفونات للتغلب علي اتساع المكان وكونه مفتوحا بلا سقف, وارتفاع بعض مستوياته والتي كانوا يؤدون بعض المشاهد عليها, فقد بدا واضحا مواجهة الممثلات لبعض الصعوبات في توصيل اصواتهن للجمهور في الجمل الحوارية خاصة أنها جمل رومانسية أدتها الممثلات بعذوبة رفيعة المستوي ولكنها لم تصل في كثير من الأحيان لآخر المشاهدين بسبب تلك المعوقات, ولكنه سيظل عملا يستحق التقدير وشكر صندوق التنمية الثقافية لإنتاجه وكذلك المخرج القدير خالد جلال الذي أنجب للوسط الفني كل أبطال هذا العرض, وكذلك الفنان عصام السيد مكتشف المواهب الإخراجية ومتبنيها.