في هذه الاجواء الساخنة من أيام شهر أغسطس, أيا ما كانت اسباب سخونتها, تذكرت وأنا اقرأ أخبارا منشورة علي صفحات الصحف عن بيع اراض للاستثمار في سيناء وعن بيع اراض للاسكان. وتذكرت الاوبريت الإذاعي الشهير الذي كان سكان واطفال القرية فيه ينددون بعواد الفلاح الذي باع أرضه رغم طوله وعرضه.. وفي المقابل أعلم كما يعلم الجميع مشاكل الموازنة العامة للأمة المصرية, سواء المترتبة علي نقص الموارد او الناجمة عن زيادة النفقات العامة وما ترتب عليها من عجز ودين داخلي, وأدرك أهمية علاج هذا العجز المزمن علاجا مستديما بدلا من اللجوء لبيع أراضي الدولة حتي لا نصبح نسخة أخري من عواد. ولعل القارئ يتذكر موجة بيع الاصول والممتلكات العقارية والانتاجية للدولة التي اتبعتها حكومات الرئيس السابق مبارك في العشر سنوات الاولي من هذه الالفية, والتي تم خلالها بيع معظم شركات القطاع العام بجميع اصولها, وبيع اراض للمستثمرين العرب والاجانب, وبيع رخص الهواتف النقالة... وغيرها من أصول وعقارات كانت تمثل محاولة لضبط مالية الدولة في تناغم كامل بين وزارتي المالية والاستثمار في ذلك الوقت برعاية لجان الخصخصة والاقتصاد بمجلس الوزراء. وحقيقي أن الدولة قد حققت موارد مالية هائلة من بيع تلك الاصول في تلك الآونة, لكنها لم تضع خططا بحلول مستدامة لتنمية موارد الدولة, وانكشفت الامور المالية خصوصا بعد الازمة المالية العالمية في عام2008 والتي اتذكر الاعلان من قبل بعض مسئولي الدولة في حينها اننا لن نتأثر بها, ولم تنضبط مالية الدولة منذ ذلك الحين. وكما نعرف فإن الموارد المالية للدولة تأتي في العادة من الضرائب ومن الرسوم ومن الاتاوات ومن دخل النشاط العام الانتاجي او الخدمي ومن حصيلة التراخيص ومن دخل الملكية العامة للدولة للموارد الطبيعية كبترول ومعادن ومحاجر ومن دخل الملكية العامة للاراضي الفضاء ومن ارباح طباعة اوراق البنكنوت وسك العملات المعدنية. وجزء لا بأس به من حصيلة الايرادات المالية لمصر يحصل بواسطة الخزانة العامة مرة واحدة نتيجة واقعه محدثة للدخل, وجزء آخر من تلك الحصيلة يتكرر تحققه بشكل سنوي نتيجة استمرار النشاط المحقق لهذا المورد. ولأن الواقعة المنشئة للدخل في الحالة الاولي قد لا تتكرر, فإن الحاجة الي تغيير الدخل المتولد عن تلك الواقعة الي صيغة الدخل المتكرر للخزانة العامة أمر مفيد ويستحق الدراسة. ولنستعين بمثال عملي لشرح الفكرة سالفة الذكر, فواقعة بيع اراض مملوكة للدولة ستتحقق مرة واحدة عند حدوث عملية البيع من الدولة المالكة للمشتري, وستحصل الخزانة العامة قيمة البيع المحددة او المتفق عليها مرة واحدة لن تتكرر إلا بعد بيع أراض أخري, فإذا ما استمرت عملية البيع علي هذا المنوال فسوف يفقد عواد أرضه بعد أجل محدد طالما أن حجم ملكيته محدود وطالما أن صلاحية الاراضي للبيع لها حدود. وللتذكرة, فقد تحقق ذلك بالفعل بعد موجة بيع الدولة لشركات قطاع الاعمال العام التي سبق أن اشرت إليها, حيث حصلت الدولة قيمة البيع ولكن في المقابل انتهت الملكيات القابلة للبيع في شركات ذلك القطاع, ولم يمنع هذا البيع عودة مشاكل نقص الموارد المالية للدولة في العامين الأخيرين. وقد تحقق نفس الشئ كذلك عندما حصلت الدولة رسما يدفع لمرة واحدة علي رخصة المحمول الثالثة, فأتت المليارات وانتهت بعد تحصيلها, لكن لم يتحقق دخل ثابت للدولة يساعد علي تنمية مواردها من مصادر غير ضريبية. وينطبق نفس الوضع علي رسوم التوقيع والمنح التي تحصلها الهيئة العامة للبترول عند السماح للشركات النفطية والمعدنية باستكشاف مواطن البترول والمعادن في مصر. والمقترح علي ضوء السعي لتنمية موارد الدولة بشكل مستديم هو التحول عن عمليات بيع حق الرقبة الي بيع حق الانتفاع في حالة التفكير في استغلال الاراضي والاصول المملوكة للدولة للغير لأي سبب كان( المباني السكنية او الاستثمار الصناعي او السياحي أو في انشاء مزارع الطاقة النظيفة أو في التنقيب عن الخامات المعدنية والموارد الطبيعية....الخ..). فحق الانتفاع سيضمن لمدد يحددها قانون يستصدر لهذا الغرض أن الدولة ستظل هي المالكة لأراضيها للأبد(خصوصا في سيناء الحبيبة لمنع تملك الاجانب لها), وأنها- أي الدولة- ستقوم بتحصيل قيمة مقابل الانتفاع سنويا بما يضمن حصيلة سنوية متجددة, علي أن يحدد القانون المقترح أن من حق الدولة مراجعة قيمة مقابل الانتفاع بعد مدة يحددها القانون( كل5 سنوات مثلا) سواء بزيادة هذا المقابل بنسبة ذات حد أقصي(5% او معدل التضخم مثلا), أو حتي بالامتناع عن الزيادة إذا ما كانت الظروف الاقتصادية لا تسمح بالزيادة من خلال قرار من أعلي سلطة بالبلاد وليكن مجلس الوزراء مثلا, وسيؤدي ذلك التحول إلي ترويج الاستثمار ذي التكلفة المعقولة التي لا تعتبر فيه تكاليف الحصول علي الاراضي مانعة للقرار الاستثماري, وسيؤدي هذا المقترح كذلك الي تيقن المشتري بالعبء الواقع عليه مما يساعده علي اتخاذ قراره الاستثماري بقدر اكبر من الثقة, هذا بالاضافة الي أن طرح اراضي الدولة واصول الدولة بهذا النظام سوف يساعد في رأيي- علي خفض القفزات الجنونية في اسعار الاراضي المملوكة للقطاع الخاص, وهو ما يساهم في خفض معدلات التضخم. وقد تنطبق الفكرة أيضا علي حالة بعض الرسوم الجمركية المانعة التي تطبق مثلا علي بعض الكماليات, مثل السيارات الفارهة المستوردة, فلماذا لا تخفض رسومها الجمركية مقابل تحصيل رسوم استخدام سنوية تضمن للدولة حصيلة مستمرة من ايرادات تراخيص الاستخدام. ولماذا لا يطبق نفس المبدأ علي مشاريع التنمية الزراعية ذات الاستخدام الكثيف للاراضي. واعتقد أن هذا التحول لن يكون له أثر تضخمي, بل ربما سييسر تكلفة الحصول علي سكن خاص من الدولة, وسيساعد علي تطبيق نظام الايجار علي مشاريعنا الاسكانية, وسينمي دور القطاع الخاص الاستثماري سواء كان هذا القطاع الخاص وطنيا او اجنبيا, بل أنه سيساعد في رأيي علي إيجاد فرص عمل كبيرة سواء في المشروعات الجديدة او في شركات متخصصة لتحصيل حق الدولة من أصحاب حقوق الانتفاع. والتحول في اعتقادي ليس مستحيلا خصوصا في الاراضي التي تملكها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة, او هيئة التنمية السياحية, أو في أراضي المناطق الاقتصادية الخاصة او العامة, أو حتي في الاراضي المملوكة لجهاز الخدمة الوطنية. وقد يستحق الامر أن يوجه الاخ العزيز وزير مالية مصر زملاءه ومرءوسيه لدراسة هذا الموضوع بشكل يضمن الاجابة علي الاسئلة التي قد تثار, وبما يساعد علي سرعة اتخاذ القرار لتمهيد الملعب لتنفيذ خارطة الطريق التي سبق ان طرحت بعض معالمها علي قراء هذه الصفحة الغراء. لمزيد من مقالات د. محمود ابوالعيون