ينتج عن الثورات دائما وعي جديد يومض في سماء العتمة خيوط من اليقظة والانطلاق وعودة الروح.. فينتعش الوجدان العام بهذا الفيض الذي يمنح الحياة الفنية والفكرية مذاقا جديدا يتجلي في أعمال إبداعية مثلما حدث بعد ثورة يوليو..1952 حيث كان عقد الستينيات بمثابة الفترة الذهبية لأرقي الأعمال الفنية والأدبية.. وربما كان برنامج' الوش التاني' الذي قدمه الفنان الموهوب' محمود عزب' هو بداية تدشين مرحلة جديدة من الرقي الابداعي الكوميدي.. نظرا لفكرته وأدائه وأسلوبه المبتكر والذي اتخذ من الجميل سبيلا وابتعد عن كل ما هو قبيح شكلا ومضمونا.. وإذا كان صدق الفنان هو جواز سفره الذي يفتح له الحدود والسدود ويجعله ملكا متوجا في قلوب الجماهير.. فكيف استطاع محمود عزب أن يتجاوز قدراته الفنية في هذا البرنامج المتميز؟. الوش التاني عمل راق أضحك المشاهدين وأمتعهم حيث برع الفنان محمود عزب في تمثيل شخصيات الإسلام السياسي والإعلاميين الذين فرضوا أنفسهم ليكونوا في بؤرة الأحداث وكان لهم نصيب واف في المشهد العام خلال الفترة الماضية, فاستطاع البرنامج أن يقدم فكرة متميزة بسيناريو راق وإيقاع سريع في الشكل والمضمون والإخراج ورسم للوشوش بإتقان شديد بأيدي فنانين متميزين مما ساهم في تفوق البرنامج واختياره في العديد من استطلاعات رأي المشاهدين ليكون الأول علي مستوي برامج رمضان. ومن جانبه عبر الفنان محمود عزب عن سعادته بهذا النجاح قائلا: توقعت نجاح البرنامج وردود الفعل الإيجابية التي جاءت من المشاهدين لان اختياراتي للشخصيات كانت دقيقة جدا وتحاكي مرحلة مهمة من عام مضي في حكم الإخوان كان لها أصداء في المجتمع وبالتالي جاء اختياري للشخصيات من زاوية بروزها علي مستوي الحدث وأعتقد أن النقد غير المباشر الذي قام عليه البرنامج ساهم في مروره وبثه فهو أول عمل أقدم فيه' النقد غير المباشر' وبدون الأسماء المباشرة للشخصيات حيث تعلمت الدرس بعد إيقاف ورفض عرض بعض البرامج التي قدمتها من قبل مثل' حكومة شو'' وقلة مندسة' فقد عانيت لدي عرضهما بسبب محاكاة الشخصية بحقيقتها ولذلك راودتنا فكرة التغيير هذا العام بعرض فكرة لأسئلة لم يسألها أحد عن رؤوس موضوعات نمر بها جميعا في حياتنا مثل: الحب الأول والرحلات والمصيف والمدرسة وغيرها وكان تفكيرنا لا يغفل عن إحتمالية بقاء الإخوان في الحكم فبالطبع سيتم رفضه حيث سجلنا الحلقات كلها في الفترة من41 يونيو وانتهينا في03 يونيو وإن كنت أشعر بداخلي أن حكم الإخوان في طريقه إلي زوال إلا أنه كان مجرد شعور خاص بي وليس واقعا حتي هذه الفترة. وعن كتابة الحلقات قال عزب: التأليف لعادل سلامة وقد حققت نجاحا معه والحمد لله في كل برامجي فقدمنا معا كوميك شو وحكومة شو وعزب شو وقلة مندسة والوش التاني وكذلك المخرج سامي أبو الخير فنحن فريق عمل متجانس وبيننا تناغم وتفاهم في العمل يبدو علي الشاشة و يضم فريق العمل الماكيير علاء الفيزي وحسن الصاوي الذي قام بنحت الشخصيات علي وجهي حيث كنت لا أرتدي ماسكات كما يعتقد البعض ولكن يتم صناعة الشخصية علي وجهي وضبط ملامحها بشكل محترف ولذلك فبرنامج الوش التاني ليس تقليدا ولكنه تمثيل للشخصية من خلال التركيز علي تفاصيلها والتغلغل في أعماقها للكشف عن روحها التي أحرص علي أن أتشربها جيدا من خلال دراستها والقراءة عنها ومشاهدة كل ما يخصها من صور وفيديوهات والبحث عن خفاياها حتي أتعرف عليها بشكل قوي وهو ما بدا والحمد لله في الشخصيات التي مثلتها. وعن اهتمامه بتمثيل الشخصيات الإعلامية قال: الإعلاميون هم القاسم المشترك في المشهد العام وكان لابد من اكماله بتمثيل شخصياتهم والحمد لله اتصل بي بعض الإعلاميين يثنون ويشيدون بحلقاتهم ومنهم وائل الابراشي ومجدي الجلاد ومع ذلك فقد كان التركيز الاكبر في البرنامج علي شخصيات الاسلام السياسي. وعن أسلوب محاكاة الشخصيات التي يجسدها محمود عزب قال: إن مرحلة التقليد اندثرت وانتهت منذ زمن فقد كنت في بداياتي الفنية أقوم بذلك ولكن منذ سنوات طويلة تم تجاوز هذا الأسلوب الفكاهي المباشر واصبح القالب الإبداعي يسعي لتقديم وتمثيل روح الشخصيات بعيدا عن مفهوم التقليد المباشر. ويختتم عزب إطلالته معنا علي الوش التاني قائلا: الحمد لله كانت تجربة ناجحة فقد تلقيت رسالة من الفنان الكبير سمير غانم أشاد فيها بالعمل قائلا: إنني استحق الأوسكار عنه وهي شهادة اعتز بها كثيرا من فنان كبير مثله. فيما يشير الفنان علاء الفيزي' ماكيير الشخصيات' إلي أسلوب العمل قائلا: أقوم بعمل الماكياج والتصميم الشكلي والشعر والملامح وكل تفاصيل الشخصية شكليا حيث تكون مسئوليتي مدي قربها من الشخصية الحقيقية والتي أدرسها جيدا من خلال صورها الفوتوغرافية والفيديوهات الخاصة بها وبروفايل الوجه وهو ثابت وغير متحرك وحركة الشفاه وكل التفاصيل الدقيقة التي تخرج الشخصية إلي النور. وعن أصعب الشخصيات التي قام بعمل الماكيير لها يبتسم ويذكر:شخصية القيادي الإخواني البلتاجي لأن وجهه به تضاريس كثيرة استغرق مني مجهودا كبيرا لكي أصل للنتيجة التي ظهر بها ويليها في الصعوبة عبد الله بدر وخالد عبد الله فقد كانت وشوشا( مكلكعة) والعمل بها مجهد لتوصيل الكاركتر علي حد تعبيره, وأكد الفيزي إعتزازه بالعمل مع الفنان محمود عزب في أعمال أخري حققت نجاحا منها قلة مندسة وبرومو كوميك شو واعتبرها من أهم أعماله كماكيير. ويؤكد الفيزي أن عزب فنان كبير مخضرم ساعده كثيرا في تذليل المشقة التي اكتنفت العمل وذلك لحماسه المفرط وحسه الفني المرهف وتوجيهاته الناجمة عن خبرته وارتفاع وعيه العام بالمجتمع ونظرته الشمولية والإغراق في التفاصيل في آن.. وكلها عوامل لا يخلو منها أي عمل فني متميز. ويشير د. سميح شعلان أستاذ الأدب الشعبي إلي ملمح هام يفسر سر إقبال المصريين علي فنون الضحك والسخرية حيث اعتاد الشعب المصري عبر عهوده الطويلة وخبرته الممتدة مع الاحتلال أن يثأر لنفسه من كل الشخصيات والرموز التي يتمني الخلاص منها.. فنجد أهل مدن القناة وخاصة بورسعيد يصنعون' دمية' علي شكل المندوب السامي البريطاني' اللنبي' ويقومون بحرقها في شم النسيم جريا علي عادة متوارثة يتم التخلص فيها من الماضي البغيض بحرق الأشياء والتخلص منها استشرافا لعام جديد.. ولكن الفنان محمود عزب تجاوز هذا العام العديد من المفاهيم والعادات المستقرة في مجال التقليد.. بدءا من اختياره لشخصيات عامة سياسية وإعلامية بعضها محبوب وله قاعدة شعبية.. والبعض الآخر مكروه يتمني الأغلبية الخلاص منهم.. مع الأخذ في الاعتبار أن الضحك والسخرية من الملامح البارزة في الشخصية.. فالمصري لديه ميول فطرية لتقبل السخرية اللاذعة.. فجاء' الوش التاني' بفكرة جديدة تكشف عن المخزون الفردي لكل شخصية عندما تتحدث في قضية إجتماعية فنشاهد علي الشاشة بانوراما هي خليط من كاريكاتير صلاح جاهين ومصطفي حسين وأحمد رجب.. ومن خلال هذا الأسلوب المتميز حيث يقوم محمود عزب باستدعاء هذه الشخصيات من حيث سماتها وملامحها وشكلها وأدائها والأهم من كل ذلك استدعاء طريقة تفكيرها.. ليضع الشخصية أمام نفسها لتتأمل صورتها في أعين الآخرين ومن ثم مراجعة النفس.. لأن أخطر ما قدمه هذا البرنامج الممتع الساخر.. هو النقد بأسلوب كشف القناع عن جوهر الشخصية.. لا عن طريق ارتداء قناع للوجه فقط.. فالوش التاني جاء بمثابة مرآة جلية تكشف أسرار العقل الفردي للمشاهير وكيف يفكرون في الموضوعات العامة بنمط محدد قابل للثناء أو النقد.. لهذا فأنا أري أن هذا البرنامج الفكاهي المحترم الخالي من الابتذال سيكون ملهما لأعمال أخري ستحاكيه أو تحاول الاقتراب منه.. ومن نفس المستوي الابداعي.. ومن شأن هذه الأعمال التي تبتعد عن القبح أن تعجل باستعادة علاقتنا بذاتنا الحضارية الممتلئة بكل ما هو جميل.