طريق وعر للغاية, لكن ليس أمامنا بديل غير السير فيه. كان المفترض أن يسير فيه الرئيس السابق وقد تولي الحكم والمصريون بينهم انقسامات, لكنه بدلا من أن يعالجها زادها تعقيدا. انحاز لجماعته ونسي مجتمعه, فكان أن ضل الطريق وأضل الوطن. عمق الاستقطاب وأعاق الحوار وسد أبواب التواصل فانتفض الوطن ضده. ولا غرابة. فمن يشق صف الناس لا تحق له ولاية. برغم أنه قضي في السلطة عاما واحدا إلا أنه خلف وراءه صعوبات عديدة من شأنها أن تعيق المضي في طريق المصالحة أو تؤخره. من بينها ثلاث عقبات كبري هي الاستقطاب, والبلبلة, وضعف القابلية للتصالح. أما الاستقطاب فعقبة بدأت قبل ولايته. لكنه تحول علي يديه إلي كارثة. فقد زاده بكل الوسائل وأخطرها القانون والدين. فبالقانون أصدر إعلانا دستوريا استعدي به شرائح المجتمع وسلطات الدولة. وبالدين ترك جماعته والجماعات الصديقة لها تمرح لتقسم المجتمع إلي كفار ومؤمنين, لتحول خلافا سياسيا إلي فرز بين من قيل إنهم موعودون بالجنة ومن أدعي أنهم حطب جهنم. العقبة الثانية, البلبلة, وتقف وراءها حملة تشويه واسعة تصور بغل وقوف الجيش بجانب الموجة الثانية من ثورة يناير علي أنه انقلاب, محاولة إيهام الخارج بأن مصر باتت مثل سوريا ترتكب فيها مجازر يومية في حق المدنيين. هذه البلبلة لا توفر مناخا مواتيا للمصالحة لأن البدء فيها يحتاج إلي اتفاق الأطراف علي توصيف المشهد. وهذا الاتفاق سيبقي غائبا مادامت الجماعة لا تريد أن تري من المشهد غير خروجها من السلطة فيما تسميه انقلابا ولا تري الشعب الذي أخرجها بإرادته في ثورة. العقبة الثالثة, هي ضعف القابلية للمصالحة. فكما أن الديمقراطية لا تبني بدون ديمقراطيين, فلا يمكن أن تتحقق المصالحة بين من لا يملكون رغبة في التصالح. ويجب أن نعترف بأن المشاعر مشحونة والشك المتبادل هائل, والغضب عارم, والنيات غير واضحة, وأحاديث الوعد والوعيد تتردد علانية, وكلها علامات تشير إلي ضعف إرادة التصالح. لكن برغم هذه الصعوبات لا بد من السير في طريق المصالحة. وأول خطوة فيه الاتفاق علي مجموعة مبادئ مقبولة لكل الأطراف وليست تصورات يحددها كل طرف علي هواه. ويجب الحذر في هذا الصدد. فمنذ أن بدأ الحديث يرتفع عن الحاجة إلي المصالحة ظهرت مجموعات مختلفة تشكلت من أجل لم الشمل أو تقريب وجهات النظر. وهذا أمر لا غبار عليه. لكن من المناسب في مرحلة مبكرة من بذل هذه الجهود أن تتشكل مظلة عامة تنسق بينها وتوفق بين المبادرات التي تطرحها حتي لا يدب اختلاف بينها قد يفرض البحث عن مصالحة بين من يحاول أن يساعدوا علي المصالحة! وأتصور أن هناك أربعة مبادئ عامة تمثل حدا أدني يمكن أن تتوافق عليه كل الأطراف. المبدأ الأول, هو وجوب النظر إلي الأمام والبدء من قناعة بأن عقارب الساعة لن تعود إلي الوراء. فما قبل25 يناير لا يمكن أن يعود. وهذا أمر مهم حتي يطمئن المجتمع إلي أن محاولات عناصر النظام الأسبق التي تسعي للالتفاف والعودة علي ظهر30 يونيو إلي امتيازاتها القديمة لن تنجح. وبالمثل فإن تصريف الأمور كما كان يجري قبل30 يونيو لن يعود وأن حكم الإخوان المطلق ليس له بعد أن سقط أن يقوم من جديد. ويحتاج النظر إلي الأمام إلي إيمان قوي بالتسامح السياسي والغفران التاريخي من الجميع وبين الجميع. بين الثورة بموجتيها الأولي في يناير والثانية في يونيو. بين الإخوان الذين ركبوا موجة يناير وجاءوا إلي الحكم فقامت في وجههم موجة يونيو لتمنعهم من الانفراد به. تسامح سياسي وغفران تاريخي أوسع ليس فقط بين موجتي الثورة وإنما مع كل من لم تتلوث يده بالدماء أو يرتكب فسادا سواء من النظام السابق أو النظام الأسبق. والمبدأ الثاني, هو الالتزام المتبادل بين الجميع بفترة صمت أيديولوجي. فالاستقطاب وإن بدأ سياسيا إلا أن دخول الأيديولوجيات علي الخط عمقته وعقدته. فالمجتمع منقسم سياسيا ولا توجد آليات مستقرة تحسم الاختلاف في وجهات النظر بين جماعاته. ولهذا فإن الضجيج الأيديولوجي إن لم يتوقف فلن يمكن أن تبدأ المصالحة. مطلوب فترة صمت أيديولوجي من الجميع يكون التركيز فيها علي وضع إجراءات تحقن الدماء بدلا من تلك المجادلات الأيديولوجية التي تؤدي إلي سفك مزيد منها. والمبدأ الثالث, هو التزام مصرية العمل. فلا مصالحة يمكن أن تبدأ أو تتقدم بدفع من أياد أجنبية معروف أن لكل منها أجندته. فالمصالحة تصمد لأن أطرافها يقدرون أهميتها ولأنهم يحتاجون إليها وليس لأنها مفروضة عليهم من الخارج. والمبدأ الرابع, هو الاقتناع بأن المصالحة تقوم علي الندية وليس الغلبة, وأن التصالح ليس بعملية تفاوض يبحث فيها كل طرف عن أوراق تعزز مواقفه أو يخلق من أجلها حقائق ميدانية تعزز سيطرته. المصالحة تعايش وطني يقوم علي القبول بالآخر وليس صفقة تجارية تهدف إلي الكسب من ورائه. والأمر ليس سهلا لأن القابلية للمصالحة ليست بادية بشكل يطمئن. لكن لا بد أن نحاول. وقد تكون هذه المبادئ الأربعة أساسا للمحاولة. لدينا مشكلة كبيرة ليس مطلوبا منا أن نهرب بها إلي الأمام وإنما أن نعالجها لنبدأ من جديد. بداية مختلفة ترسخ في الأذهان أن مصر ليست غنيمة يتصارع عليها الجميع وإنما مسئولية يجب أن يتحملها الجميع. ولأن الطريق إلي المصالحة وعر فإن قطعه سيكون هو عنوان الموجة الثالثة من الثورة التي لو قطعت بنجاح سنكون قد عبرنا من الثورة بكل تعقيداتها إلي الدولة بكل ما ينتظر منها من وعود. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات