يذكرني حريق المجمع العلمي المصري بحرائق أخري شبت في الماضي القريب والبعيد, في بلادنا وفي بلاد أخري, والتهمت مباني ومعالم مختلفة, وامتد بعضها فأتي علي مدن كاملة, وقضي علي ثقافات ومدنيات. ونحن نتذكر الماضي لنزداد معرفة بالحاضر وفهما له. نتساءل مثلا: هل يمكن أن نجد دوافع مشتركة أو أسبابا تصل بين الحريق الذي شب في المجمع ودمر مقتنياته, والحريق الذي أتي علي دار الأوبرا قبل أربعين عاما من اليوم؟ ودار الأوبرا أخت شقيقة للمجمع. المجمع أنشأه بونابرت قبل مائتي عام لينقب عن ماضي مصر, ويبحث في حاضرها, ويضع الأسس التي تكفل لها أن تنهض وتترقي وتتقدم. وقد تعددت ميادين البحث في المجمع فشملت الآداب, والفنون الجميلة, والآثار القديمة, والفلسفة, والسياسة, والطبيعة, والرياضيات, والطب, والزراعة, والتاريخ الطبيعي. وباستطاعتنا أن نقول إن المجمع أساس أولي قامت عليه النهضة المصرية التي توالت صورها وتتابعت خطواتها في بعوث محمد علي الي عواصم أوروبا, وفي المدارس والمصانع التي أنشأها, وتابع إنشاءها خلفاؤه خاصة اسماعيل الذي وضع اللبنات الأولي للديمقراطية, وأنشأ أول برلمان في تاريخ مصر وتاريخ المنطقة, وأحل القوانين الوضعية محل القوانين الدينية, وأنشأ دار الأوبرا التي لم تكن مجرد مسرح, وإنما كانت صرحا من صروح النهضة وجسرا ممتدا بيننا وبين الأوروبيين نعبره الي روما, ونعبره الي طيبة فنري القائد المصري راداميس في أوبرا عايدة وقد انتصر في الحرب, وإن كانت أسيرته الحبشية عايدة قد انتصرت عليه في الحب!. هذه الروح الوثابة فقدناها حين حلت بنا هزيمة يونيو فانتعشت التيارات الدينية المتطرفة التي همدت في الستينيات, واستأنفت حربها الشعواء علي النهضة وعلي ثقافتها وقيمها ومؤسساتها المختلفة. وفي هذا المناخ المهزوم المسموم اشتعلت النار في دار الأوبرا, وأتت علي ما كان فيها من كنوز لاتقدر بثمن. هل هناك ما يجمع بين حريق الأوبرا وحريق المجمع؟ نعم! فالقوي التي أنعشتها هزيمة يونيو وأعادت اليها الروح هي ذاتها القوي التي سطت علي ثورة يناير وأعلنت الحرب علي العقل, وعلي الديمقراطية, وعلي العلمانية, وعلي السفور, والسياح الأجانب, وعلي فن النحت, وروايات نجيب محفوظ. وهي القوي التي تستعد الآن لاحتلال البرلمان والانفراد بمصر وإعادتها الي ما كانت عليه في زمن المماليك قبل إنشاء الأوبرا, وقبل إنشاء المجمع. فلابد أن تحترق الأوبرا, ولابد أن يحترق المجمع. ما هي الأطراف المختلفة التي شاركت في الجريمة, بعضها بالصمت, وبعضها بالقول, وبعضها بالفعل؟ من الذي قذف المبني بالكرة المشتعلة؟ ومن الذي وقف جامدا لايبالي ولايتحرك ولاينجد ولايستنجد, لأن ما حدث لا يعنيه, او لأنه كان يتمناه وينتظره, فلما حدث وقف يتفرج ويتشفي. وربما استبد به فرحه الهمجي فرقف يرقص ويغني كما فعل ذلك المجرم الأثيم الذي ضبطته آلات التصوير وهو يرفع يده بعلامة الانتصار! ألا يذكرنا هذا الجنون بجنون نيرون الذي أشعل النار في روما, ثم وقف محتضنا قيثارته يتأمل المدينة التي تحترق ويغني؟ وهل كان الحريق الذي أشعله هذا الطاغية المجنون في عاصمته إلا حلقة في سلسلة متصلة من جرائمه الشنيعة, بدأها بقتل أمه, ثم تلاها بقتل زوجته, ثم ختمها بقتل أستاذه الفيلسوف المسرحي سنيكا؟ لقد اتهمه بالتآمر عليه, ثم طلب منه أن ينتحر فانتحر! ونحن نري أن اللعب بالنار ارتبط دائما بالتطرف وكراهية الآخرين والجنون والعدمية. حين نتذكر سلسلة الحرائق التي عصفت بالإسكندرية وبمكتبتها في القرون الأولي لميلاد المسيح عليه السلام, نري كيف ارتبط التعصب والتطرف الديني بالعنف الدموي والاندفاع لتدمير كل شيء. لقد تعرضت المكتبة لسلسلة من الحرائق أولها ما وقع خلال المعركة البحرية التي نشبت بين الأسطول الروماني الذي هاجم المدينة في أواسط القرن الأول قبل الميلاد وأسطول كليوباترا. وكان حريقا هائلا بدأ في دار صناعة السفن, ثم امتد إلي المكتبة فقضي علي معظم مقتنياتها من المخطوطات الأدبية والفلسفية. ثم كانت الحرائق التالية في القرون التالية التي اشتعلت فيها الثورات والصراعات الدينية والعنصرية التي لم تدمر المكتبة وحدها, بل دمرت المكتبة, والمتحف الموزيوم, والمعبد السيرابيوم, وانتهت باغتيال الفيلسوفة هيباتيا والتمثيل بجثتها. وهيباتيا هي عميدة الأفلاطونية الحديثة في القرن الخامس للميلاد.. وكانت شابة جميلة في الخامسة والثلاثين من عمرها, تقاوم التعصب, وتدافع عن العقل وحرية التفكير. ولهذا أصبحت عدوا للمتعصبين من رجال الكنيسة الذين حرضوا عليها الغوغاء فتجمعوا أمام بيتها إلي أن وصلت, فأمسكوا بها وجروها من شعرها ومزقوا ملابسها حتي صارت عارية تماما, فقيدوها بالحبال, واشتد سعارهم فجروها في شوارع المدينة وهي تنزف, ثم أخذوا يتسلون بتمزيق لحمها بأصداف البحر حتي لفظت أنفاسها. وعندئذ ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا فيها النار! ألا يذكرنا ما حدث لهيباتيا علي يد الغوغاء المتعصبين في شوارع الاسكندرية القديمة بما حدث للفتاة المصرية المتظاهرة علي أيدي الغوغاء المنتسبين زورا وبهتانا لجيش مصر, والجيش منهم براء, لأن الجندي الذي يحمي علم مصر بدمه لايمكن أن ينتهك حرمات مواطنيه ويدوس علي مقدساتهم. والمرأة المصرية هي قدس الأقداس, خاصة تلك التي حطمت قيودها, ووقفت إلي جانب الرجل ترفع شعارات الثورة وتنادي بمطالبها. كيف سولت لهؤلاء المجرمين أنفسهم أن يمزقوا ثياب أمهاتهم وأخواتهم في الشوارع ويدوسوا علي صدورهن العارية؟ أية ثقافة تلك التي سمحت لهؤلاء بأن يرتكبوا جريمتهم؟ وأية تقاليد؟ وأي قانون؟ وأي دين؟إنها ثقافة العبيد وقوانين الطغاة وغرائزهم المنحطة التي جمعت بين قتلة هيباتيا وقتلة فرج فودة. ونجيب محفوظ والشيخ عماد عزت. بين الذين أشعلوا النار في المجمع العلمي والذين طرحوا الفتاة المتظاهرة أرضا ومزقوا ثيابها وعروا جسدها بين الذين حجزوا علي أثاث منزلي لأني فضحتهم في إحدي مقالاتي قبل أعوام, وأمثالهم الذين يطاردون علاء الأسواني هذه الأيام. بين النازيين الذين أشعلوا النار في الرايشتاج البرلمان الألماني عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين ليرهبوا خصومهم وينفردوا بالسلطة, وأمثالهم المصريين الذين أحرقوا كنائس السويس وأشعلوا النار في القاهرة في السادس والعشرين من يناير عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين, فأعلنت الأحكام العرفية, وأقيلت وزارة النحاس, واستولي الضباط علي السلطة في يوليو, وبدأنا العد التنازلي في سباق العودة إلي عصور الظلام والطغيان والعبودية. والسؤال: هل نواصل هذا السباق الوبيل, أم نتوقف ونستعيد وعينا ونقبض من جديد علي أعنة النهضة؟ ثورة يناير تحيي في نفوسنا الأمل. والأحداث والتطورات التي أعقبت الثورة تثير الخوف وتدفع للقنوط! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي