في ظل الأزمات السياسية وتعثر عمليات التحول الديمقراطي عادة ما تتجه الأنظار الي الحكومة, كأن تطالب القوي السياسية علي اختلاف توجهاتها بتشكيل حكومة إنقاذ وطني, أو حكومة ائتلافية أو علي أقل تقدير حكومة تكنوقراطية أي مشكلة من مجموعة من المتخصصين في مجالاتهم وغالبا ما يكونون من وكلاء الوزارات, أو بالأحري حكومة موظفين حتي تكون محايدة! وهكذا, وقد شهدت مصر هذا الجدل قبل التغيير الوزاري الأخير, حيث طالبت المعارضة وبعض من المنتمين إلي الحزب الحاكم نفسه باستقالة الحكومة, حتي بدا الأمر وكأن في هذه الاستقالة حلا للأزمات المستعصية التي يواجهها النظام السياسي( سلطة و معارضة) أو أن التغيير الوزاري في ذاته سيؤدي تلقائيا إلي تحقيق الاتفاق السياسي المفقود بين أطراف اللعبة السياسية, والواقع أن شيئا من هذا لم يحدث, ليس فقط لان التغيير جاء محدودا ومقصورا علي عدد من الوزارات, ولكن- وهو الأهم- لأن تلك المطالب التي ركزت علي تغيير الحكومة لم تكن لتتفق علي الأهداف الكبري المراد تحقيقها منها, بخلاف رفع شعارات الثورة في الحرية و العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, وهي مبادئ لا خلاف عليها, ولكن القضية كانت دوما وستظل- في آلية تحقيقها التي تتباين حولها الرؤي والبرامج, فتغيير وزير هنا أو هناك, أو حتي رئيس الحكومة لن يضمن وحده بلورة تلك الأهداف ناهيك عن وضعها موضع التطبيق. إن مناسبة هذا الحديث لا تتعلق بالتغيير الذي شهدته الحكومة الحالية, الذي- وكما كان متوقعا- لم يحظ بقبول من المعارضة وفئات عريضة من المجتمع, وإنما لأن تلك القضية( أي قضية تغيير الحكومة) ستظل مطروحة لفترة طويلة قادمة دون أن تحظي بمناقشة أوسع تتعدي الأسماء و الشخصيات التي تتولي مناصب وزارية لتتطرق إلي موقعها( أي الحكومة) في بنية السلطة و النظام السياسي عموما أي إلي وزنها وحجم تأثيرها الفعلي. وليس المفترض في صنع السياسات و دوائر اتخاذ القرار. ففي الخبرة المصرية المعاصرة التي امتدت لعقود وحتي اليوم لم تكن الحكومة( أي حكومة) عنصرا فاعلا في التركيبة السياسية للنظام, إذ لم تعرف مصر منذ زمن نمط الحكومات السياسية التي تتشكل من سياسيين وإنما علي عكس ارتكنت إلي ذلك النمط المعروف بالحكومات البيروقراطية أو التكنوقراطية, لذلك فالمطالب التي أثيرت أخيرا حول اللجوء إلي تشكيل حكومة تكنوقراط كأحد الحلول لأزمة السلطة مع المعارضة هو حديث غير ذي موضوع, لأن مصر لم تخرج عن هذا النمط حتي تعود إليه, كذلك كانت الحكومة دوما خاضعة لسلطة الرئيس سواء بشكل مباشر( مثلما حدث في جميع العهود بعد 1952 ناصر والسادات ومبارك, بتولي الرئيس نفسه للوزارة) أو غير مباشر, وفي الحالتين لم يكن هناك فارق كبير, لذلك توصف الحكومة عادة بأنها أضعف الحلقات في سلم السلطة ودائما ما تتلقي اللوم عوضا عن النظام وتتحمل سلبياته وأخطاءه. وقد يكون هذا هو أحد أسباب الإبقاء علي الحكومة الحالية للدكتور هشام قنديل لحين الانتهاء من الانتخابات البرلمانية القادمة لما قد تثيره من مشاكل ومعارضة متوقعة. إن القضية المثارة هنا تتعلق بالمسئولية السياسية خاصة مع الإصرار علي الأخذ بما يعرف بالنظام المختلط أي الذي يجمع بين النمطين الرئاسي والبرلماني, والذي تظل معه تلك المسئولية غائمة, فضلا عن عدم وضوح قواعد تشكيل الحكومة, بعكس الحال في النظم الصريحة سواء كانت رئاسية أو برلمانية, ففي الحالة الأولي, يتم اختيار الحكومة من قبل الرئيس, أما في الحالة الثانية, فتتشكل الحكومة وفقا للتمثيل النسبي للأحزاب داخل البرلمان, ومن هنا تأتي فكرة الحكومات الائتلافية, أما في الأنظمة المختلطة أو التي يطلق عليها شبه الرئاسية كما في فرنسا( وهو النموذج الذي تستلهمه مصر) فيقوم رئيس الجمهورية بتعيين رئيس الوزراء ولكن يتعين علي الحكومة رغم ذلك الحصول علي ثقة البرلمان, وفي هذا النمط أيضا قد تظهر الحكومات الائتلافية, ولكن يظل الفارق بين مصر وفرنسا كبيرا, ويكمن في درجة المؤسسية, فضلا عن قوة النظام الحزبي ومدي رسوخ التجربة الديمقراطية من حيث الفصل بين السلطات والإعلاء من سيادة القانون, والقدرة علي بناء التحالفات السياسية التي تقوم علي الاتفاق في الأمور الجوهرية و هو ما لا يتوافر في التجربة المصرية, حيث القوي السياسية والأحزاب منقسمة حول كافة الأمور تقريبا ولا توجد أرضية مشتركة تسمح بأن تتشكل علي أساسها حكومة ائتلافية. ومع كل هذا الجدل فإن موقع الحكومة في عملية صنع السياسات أو القرار تبدو ضعيفة أو غائبة. فالإدارة السياسية لأغلب الشئون الداخلية أو الخارجية هي بعيدة عن الحكومة, فملفات السياسة الخارجية مقصورة علي الرئاسة والنخبة المحيطة بها, فضلا عن بعض الجهات السيادية المعروفة, كذلك الحال علي مستوي الداخل بدءا من وضع الدستور إلي صياغة العلاقات بين المؤسسات الكبري في الدولة( الرئاسة, المؤسسة العسكرية, الداخلية, القضاء) كلها تحكمها تفاعلات وتوازنات, توافقات أو اختلافات تتجاوز الحكومة, وهناك عشرات الأمثلة التي تؤدي إلي نفس المعني مثل معايير الاختيار في المجالس والهيئات المختلفة, طرح وإقرار بعض التشريعات مثل الصكوك الإسلامية ووضع قانون الانتخابات البرلمانية وقانون تنظيم المظاهرات إلي قانون التصالح مع رموز النظام السابق من رجال الأعمال, فضلا عن إدارة الأزمة مع القضاة التي خلفها مشروع قانون السلطة القضائية وغيرها من أمور لا يبدو للحكومة دور حقيقي فيها, إلا في إضفاء مشروعية عليها دون المشاركة في صنعها. ولهذه الأسباب كلها أو بعضها لا ينتظر أن تغير الحكومة الكثير طالما بقيت القرارات في يد السلطة العليا وحدها, وطالما بقيت التفاعلات السياسية خارج إطارها, وفي ظل هذا الواقع, وبما أننا نتحدث عن نمط من الحكومات بيروقراطية أي إدارية و فنية, فمن الأفضل أن تركز الحكومة( أي حكومة) علي الجانب المتعلق بالخدمات العامة, الذي يشهد تدهورا متزايدا, وينخفض فيه أداء الحكومة عند أدني مستوي, وهذا أضعف الإيمان. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى