في إحدي السنوات طلبت مني مجلة خليجية أن أكتب في موضوع جديد بمناسبة التجديدات التي تقوم بها, فكتبت سلسلة من المقالات تحت عنوان كلمات ضالة تخيلت فيها أن الكلمة كائن حي- كما أن هذا الكائن الحي يمكن أن ينحرف عن مساره الطبيعي الذي كان يسير فيه فكلمة الميتافيزيقا لم تكن في بدايتها تعني شيئا سوي اسم مجموعة من المقالات التي وردت بعد كتاب الطبيعة لأرسطو( ولم يكن أرسطو نفسه يعرف كلمة الميتافيزيقا التي سمي بها أعظم مؤلفاته- بل أصبحت تطلق علي موضوعات من أكثر موضوعات الفلسفة صعوبة وتجريدا وإثارة للجدل!)- وكلمة السوفسطائيSophist كانت تعني في بدايتها الحكيم ثم انتهت لتعني المرائي والمخادع... لكن ألا يحدث ذلك مع الأفراد من بني البشر؟! ألم يقف الشاب نجيب محفوظ كالطود الشامخ أمام رغبة والده في الالتحاق بكلية الطب ليكون مثل نجيب محفوظ الطبيب الذي أشرف علي ولادته المتعسرة والذي سمي باسمه؟! إلا أن الشاب الذي كان يستشرف طريقه ومواهبه أصر علي الالتحاق بكلية الآداب قسم الفلسفة؟ ثم عاد الأب يلح علي التحاق ابنه بكلية الحقوق ليكون وكيلا للنائب العام مثل فلان وعلان, لكن الشاب النابه يعود مرة أخري إلي الإصرار علي الالتحاق بكلية الآداب قسم الفلسفة, فكان ما كان نجيب محفوظ مبدع الرواية العربية! لكن هناك كثيرون غيره تنازلوا عن البحث عن الهواية والموهبة وساروا في طريق مخالف لها إرضاء لرغبة الوالدين, أو أنهم لم يكتشوا أنفسهم إلا بعد فوات الأوان وإليك بعضا من هؤلاء:- الدكتور حسين فوزي. الطبيب الذي ساعد في إنشاء البرنامج الثاني بالإذاعة وكان له باع كبير في ميدان الموسيقي! الدكتور يوسف إدريس الطبيب القصاص الذي ساهم في إنشاء نادي القصة وكان ينافس نجيب محفوظ في كتابة القصة القصيرة دون أن يعلم أحد أنه طبيب! الدكتور مصطفي محمود أخصائي الأمراض الصدرية والكاتب الكبير الذي إتجه إلي اليسار في البداية ثم إستقر في أحضان الدين واستغل معلوماته العلمية في شرح بعض الآيات القرآنية! الدكتور إبراهين ناجي أخصائي الأمراض الباطنية والشاعر صاحب الدواوين الثلاثة الشهيرة! الدكتور طارق علي حسن: أستاذ الغدد بكلية الطب ورئيس دار الأوبرا في يوم من الأيام! الدكتور يحيي الفخراني أخصائي الأمراض العصبية والممثل المعروف. والدكتور عزت أبوعوف الذي لا يعلم كثيرون أنه كان في الأصل طبيبا قبل أن ينتقل إلي الموسيقي ليجد نفسه في ميدان التمثيل والغناء. والدكتور فؤاد خليل طبيب الأسنان الذي أصبح من نجوم الكوميديا.! الدكتور النجريدي طبيب الأسنان بطنطا الذي كان أول من لحن ألحانا حديثة للسيدة أم كلثوم.! وأخيرا وليس آخرا الدكتور أحمد سلامة فهو طبيب الأمراض الباطنية الذي لم يكن في طفولته يهوي مجلات الأطفال ولا لعب الكرة ولا ركوب الدراجات كما يفعل الأطفال عادة بل كان شغله الشاغل حفظ كلمات الأمثال الشعبية والحكم التي يجيد حفظها عن عمه(وكان يكبر والده بعشرين عاما!)- مع ميل إلي الهدوء والتأمل, وبدأ في مرحلة الشباب يقرأ لأفلاطون وأرسطو.. وعندما حصل علي مجموع عال جدا في الثانوية العامة وأرقام قريبة من النهائية في المواد العلمية بدأت والدته تلح عليه للالتحاق بكلية الطب بجامعة القاهرة بينما كان الوالد يفضل الفنية العسكرية- لكن الشاب كان يرغب في الالتحاق بكلية الآداب, وهي رغبة بدت أشبة بالجنون لمن يحصل علي مثل هذا المجموع المرتفع الذي يؤهل صاحبه للالتحاق بأرفع الكليات كلية الطب! وفي أثناء الدراسة بكلية الطب كان يوفر من مصاريف شراء الكتب الطبية لكي يشتري الكتب الأدبية وكان والده يسخر منه ويتساءل! تشتري الكتب الأدبية: أبقي قابلني لو فلحت في كلية الطب! ولقد دفعه ذلك إلي متابعة البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية, وما كان يقدمه الدكتور حسين فوزي من إذاعة رسائل الدكتوراة في الجامعات المصرية في فروع الآداب المختلفة, وقراءة الموضوعات والمقالات الفلسفية في جريدة الأهرام للأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود, وفي إصدارات دار الهلال, ومجلة العربي الكويتية.. إلخ. وبعد تخرجه عرض علي والده أن يلتحق بكلية الآداب لكي يشبع رغبته في دراسة الفلسفة بعد أن أرضاهم وأصبح طبيبا فرد علي بقوله: دور علي حد تاني يصرف عليك!. فسجل لدرجة الماجستير في الأمراض الباطنية وحصل عليها عام1980, ثم سافر إلي المملكة المتحدة, وعندما عاد تقدم برسالة دكتوراة إلي كلية طب قصر العيني, وتمت مناقشتها عام1993 سافر بعدها إلي أمريكا لبعض الوقت ثم عاد إلي القاهرة, وطوال هذا الوقت وهذا الرجل يصارع في جبهتين: جبهة الهواية وجبهة الاحتراف.. وأخيرا انتصرت جبهة الهواية, فأغلق عيادته في القاهرة واتجه إلي دراسة الفلسفة من مصادرها الأصلية في مكتبة كلية الآداب في جامعتي القاهرة وعين شمس. وحرص علي حضور مناقشة الرسائل العلمية( للماجستير والدكتوراة) وبدأ منذ عام2003 في ترتيب ما جمعه من أفكار وحكم وعبارات للفلاسفة وآرائهم في شئون المجتمع من قراءاته علي مدي أربعين عاما في35( أجندة) ذ380: الخالدات100 أولاهن السيدة مريم ويحتوي علي ثمانية فصول مقسمة حسب موضوع العظمة: العظيمات في الإيمان: السيدة مريم, والسيدة خديجة والسيدة آسيا وملكة سبأ بلقيس- إلخ والعظيمات في العطاء: الملكة زبيدة, والام تريزا والأميرة فاطمة إسماعيل.. إلخ وعظيمات قدمن جديدا: في مهنة التمريض ورائدة تحرير المرأة, وصاحبة نوبل للسلام, وأول دار نشر للأطفال. وسانت كاترين وهلن كيلر ورابعة العدوية وجان دارك.. إلخ وطبع هذا الكتاب أربع مرات في سنتين!(2010 ذ2012)!2012: رجال لم يعرفوا المستحيل! وقد كتب عليه أنه موجه إلي الشباب فقط! يروي فيه قصص نجاح مائة شخصية عالمية نادرة ويحث الشباب علي الاقتداء بهم فلو كان هناك مستحيل ذ ومهاراتك وألوان التميز التي تتمتع بها أمام عقبات من الأسرة أو المجتمع بل كن طه حسين آخر الكفيف الذي أنار طريقنا ببصيرته وفكره هبة الله للمصريين في القرن العشرين, أو الإمام محمد عبده منارة التحديث والتجديد الفقهي في العصر الحديث.. أو ستفن هوكنج العالم المقعد علي كرسي متحرك.. ومع ذلك وصل إلي جائزة نوبل في الفيزياء!!. وشاعرنا الرقيق أبو القاسم الشابي مريض القلب الذي مات عن خمس وعشرين عاما(1909 ذ1934): إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر. وهذا الشاب المريض كان عاشقا للمغامرة دائم الدعوة إليها فهو القائل:- من لا يحب صعود الجبال.. يعيش أبد الدهر بين الحفر فلا الأفق يحضن ميت الطيور.. ولا النحل يلثم ميت الزهر وهناك عشرات من هؤلاء الذين رفضوا الاستسلام لظروفهم الخاصة أو ظروف أسرهم أو مجتمعهم وقرروا المضي في تحقيق آمالهم وأحلامهم مهما يكن الثمن! في هذا العام2013 صدر له كتاب طريف في موضوعه هو الصبر الفضيلة الغائبة في حياة البشر.. فهو يري أن الصبر والمثابرة ضرورتان أساسيتان في الإنجازات العلمية والمجتمعية والرياضية. وهو يحدثنا عن فلسفة الصبر ومعناها وعن صبر الأنبياء والرسل, والصبر علي النفس وكيفية تعلم الصبر; وعن الصبر والتأني في الحوار والاختلاف, والصبر في المرض والإعاقة, وفي آداب المرور وقيادة السيارة, والصبر في تربية الأطفال ومع كبار السن الذين قهروا الزمن بالصبر. فالإنسان الذي يمكنه إتقان الصبر يمكنه إتقان أي شييء آخر..! ولما كان الدكتور أحمد سلامة قد بدأ حياته الأدبية بكتابة موسوعة أخلاقية صغيرة تشمل أكثر من3.000 نصيحة وحكمة للشباب جمعها من الحضارات المختلفة: الفرعونية, والصينية والهندية..إلخ. فإنه الآن يعكف علي استكمال هذه الموسوعة الصغيرة لتكون موسوعة كبري- وهو يكتب ما يكتب وفي ذهنه الشباب, أو قل شبابه هو وما كان يعانيه من ضغوط أسرية, وصراع بين ميوله الأدبية ومواهبه المكنونة التي تحتاج إلي مناخ خاص لكي تظهر والمثل العليا التي تصنعها الأسرة للشباب حسب ظروفها وظروف المجتمع معها.. وهكذا يظل الشاب أحمد سلامة يكافح وحده لكي ينمي مواهبه حتي بعد أن تجاوز الستين! فيا أيها الناس أعلموا أن أجمل شييء في هذه الدنيا أن يكون عملك هو هوايتك, وموهبتك هي وظيفتك!