تتواري الكلمات رهبة أمام بواباتها الخشبية العتيقة.. السلالم تعزف ترتيلة حب وخشوع.. الأعمدة باسقة شامخة بكرامة النخيل في مواسم الطرح.. علي أسوارها وجذوع أشجارها تسمع صوت أجراس سماوية.. وكأن الطير يدندن في عشه بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي: ولد الرفق يوم مولد عيسي والمروءات والهدي والحياء وازدهي الكون بالوليد وضاءت بسناه من الثري الأرجاء يقرع الشوق إلي زيارتها طبوله.. فألبي النداء.. لأجدني في قلب منطقة مصر القديمة.. هنا علي مقربة من جامع عمرو بن العاص ومعبد بن عزرا اليهودي- شيدت الكنيسة' المعلقة' علي برجين من الأبراج القديمة لحصن بابليون, الذي بناه الإمبراطور تراجان في القرن الثاني الميلادي, وهو ما يفسر تسميتها' المعلقة'. عند مدخلها, تستوقفك أعمدة ضخمة, يبلغ عددها13 عمودا, تمثل المسيح والرسل الإثني عشر. علي بابها يجلس التاريخ, يسرد حكايات لناس رحلوا عن عالمنا, كانوا زاهدين في هذه الدنيا وأمضوا حياتهم في التفرغ للعبادة.. فتسمع منه قصة البطريرك خريستودولوس أول من اتخذ منها مقرا, ومحاكمات لكهنة وأساقفة, ومحاكمات للمهرطقين.. رحل التاريخ مخلفا وراءه شهادته علي جدرانها: صور لشخصيات مهمة, إلي جانب أجزاء من صحف قومية مصرية, ترصد أحداث عاشتها الكنيسة. يذكر أن' المعلقة' التي تحدث عنها المقريزي باستفاضة, كانت مقرا للكرسي البابوي حتي القرن الرابع عشر الميلادي.. ثم انتقل بعد ذلك إلي كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم في منطقة باب زويلة. الأسقف تبهرك بأيقوناتها الملونة للسيد المسيح والملائكة.. دنيا رائعة من الرسومات والألوان تحلق معها عاليا بعيدا عن الأرض. جولة بين هياكلها الثلاثة:' القديسة العذراء مريم', و'القديس يوحنا المعمدان', و'القديس مارجرجس', تضفي سلاما داخليا تصفو له النفس. عالم روحاني تلفه رائحة البخور ويضيئه وهج القناديل.. علي بابها الخشبي, تقع عيني علي عبارة سلوا تعطوا.. اطلبوا تجدوا.. اقرعوا يفتح لكم.. ما أجملها من كلمات تبث في النفس الأمن والطمأنينة! جعلت منها قبلة كل محتاج, ومقصد كل سائل.. وما نحن في هذه الدنيا سوي عابري سبيل! أرسل نظري في الحديقة, فأري نخلتين.. يعتقد الناس أن العائلة المقدسة( السيدة العذراء, والسيد المسيح, ويوسف النجار) قد أكلت منها.. حينما ضاقت بهم الأرض, فوجدوا في مصر الملاذ والقلوب مفتوحة الأبواب. مسلمون ومسيحيون يعتقدون أن أصل هذه الكنيسة كان موقع المغارة التي اختبأت فيها العائلة المقدسة أثناء رحلتها الي مصر.. أما الباحثون عن عالم النورانيات ودفء الأمكنة وتراهم يوقدون الشموع إيمانا منهم بفاعلية التبرك بهذه البقعة الطاهرة. يمضي الوقت داخلها سريعا مهما طال!.. أوقات فرح وذكر وصلوات.. هنا, الترنيم بالحب.. عبادة.