تعلمت أن الرجل الشجاع ليس ذلك الذي لا يشعر بالخوف, وإنما ذلك الذي يقهره. إذا تصالحت مع عدوك, فعليك أن تعمل معه. عندها يصبح صديقك. العبارات السابقة كانت لرئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا, المناضل الذي نجح في وضع نهاية لسياسات التمييز العنصري في بلاده واهبا لها الاستقلال من الحكم البريطاني, وذلك عبر النضال السلمي, ولاحقا محققا التنمية لها عبر الدعوة للمصالحة الوطنية والعمل علي إنجازها بين جموع الشعب. ولأن المصالحة الوطنية كانت مفتاح تقدم العديد من الشعوب عبر التاريخ, فقد أراد الألمان والروس تحقيق المصالحة مع اثنين من أبرز الشخصيات التي حكمتهما في التاريخ الحديث أدولف هتلر وجوزيف ستالين. فحتي يومنا هذا يختلف الألمان في رؤيتهما لشخص هتلر, هل كان ديكتاتور أحرق ألمانيا حين أصابه جنون العظمة فدفعه إلي الرغبة في بسط هيمنته علي كامل القارة الأوروبية, أم كان سياسيا ورجل حرب أحب بلاده وأضناه ما تعرضت له من إهانه خلال الحرب العالمية الأولي فأرد أن يرد لها كبريائها. ولم يختلف حال ستالين عن حالة سلفه هتلر كثيرا, فهو أيضا مختلف علي تقيمه, فلا يستطيع الروس أن يحددون ما إذا كان ستالين داهية سياسية حقق المجد للاتحاد السوفييتي, أم كان ديكتاتورا آخر يري في القتل الحل الأمثل لجميع المشكلات. وانعكس هذا الانقسام في مدينتا براوناو الألمانية وجوري الجورجية التي كانت في القرن الماضي إحدي دول الاتحاد السوفييتي, وتجلي انقسام الرأي في تعامل المدينتين مع ارث ابنيهما هتلر وستالين. فإضافة إلي الاختلاف الجغرافي بين المدينتين, فبراوناو مسقط رأس هتلر, وهي بلدة نمساوية ميسورة الحال تتميز بعمارة تعود للقرون الوسطي محافظ عليها بشكل جيد, بينما تعد جوري مسقط رأس ستالين بلدة فقيرة, تتسم بمبانيها القديمة المشيدة بطراز العمارة الستالينية وما زالت آثار الحرب التي خاضتها جورجيا مع روسيا عام2008 بادية للعيان, إضافة لهذا, هناك الاختلاف في تبني فكرة المصالحة مع الماضي. ففي المدينة النمساوية الميسورة, كان من غير المعقول حتي التفكير في إطلاق اسم هتلر علي شارع من شوارع المدينة, ولكن لأن الألمان لا يتخلون عن تاريخهم أبدا فقد حافظوا علي المنزل الذي يعود تاريخه إلي القرن السابع عشر حيث ولد هتلر مازال شاخصا, إلا أن كل ما يربطه بهتلر هو عبارة عن لوح حجري مثبت في الشارع يحمل عبارة لا للفاشية. في ذكري ملايين الموتي, ولا يظهر اسم هتلر علي اللوح إطلاقا. فبراوناو ممزقة بين أولئك الذين يعتقدون انه ينبغي مناقشة موضوع هتلر بحرية والذين يتمنون أن يختفي الأمر بشكل نهائي, فبينما يطالب البعض بتحويل المبني إلي مركز للمسئولية يقوم بمواجهة الماضي النازي, يريد آخرون تحويله إلي شقق سكنية أو إلي مؤسسة تعليمية. وفي الوقت الذي يحاول فيه السكان في براوناو, إخفاء أي علاقة قد تربطهم بهتلر, يسعي الجورجيون من ورثة ستالين في جوري إلي تحقيق مصالحة مع مصالحة مع الماضي, ربما تطبيقا لمقولة أخري لمانديلا إن العظمة في هذه الحياة ليست في التعثر, ولكن في القيام بعد كل مرة نتعثر فيها, وكان التطبيق عبر احتفائهم بستالين وإظهار فخرهم بانتمائه لبلدتهم. ولم يكن الوصول إلي فكرة المصالحة أمرا سهلا, فقد تسبب الخلاف حول ستالين بين من يعتبرونه بطلهم, الرجل الجورجي الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية وغير وجه العالم, والآخرين- ذوي الميول الغربية- الذين يكرهونه ويرون فيه ديكتاتورا دمويا قمع استقلال جورجيا, هذا الخلاف أسفر عن تغيير شكل جوري, فكانت السمة المميزة لشارعها الرئيسي لسنوات طويلة تمثالا ضخما لستالين, ولكن في عام2010, قامت حكومة ميخائيل ساكاشفيلي الموالية للغرب بهدم التمثال مما أثار حنق العديدين من سكان جوري, وبقي لدي البعض ممن عاصروا حكم ستالين حلم استعادة التمثال مرة أخري. إلا أن الديمقراطية حققت لهؤلاء الأحفاد حلمهم وذلك بعد أن أطاحت الانتخابات بنظام ساكاشفيلي, واتي محله نظاما أكثر قومية يدعو إلي الحفاظ علي الإرث الجورجي وفي الوقت نفسه إبقاء علاقات متوازنة مع روسيا. هذا التغيير السياسي سهل علي المجلس المحلي لمدينة جوري أن يعلن عن تخصيص مبلغ من المال لإعادة تمثال ستالين ولكن ليس لمكانه الأصلي في شارع ستالين بل مقابل أهم معلم سياحي في المدينة, وهو متحف ستالين الذي انشأ عام1957 أي بعد وفاة الزعيم السوفييتي بأربع سنوات. ويبقي الحكم علي هتلر وستالين والمصالحة مع تاريخهما في يد الزمن.