تميزت كنيسة مصر عن غيرها من الكنائس ببركة خاصة إذ أتت إلي أرضها العائلة المقدسة( السيدة العذراء مريم, ويوسف النجار, والطفل يسوع) وساروا في شوارعها, وزاروا مدنها, وشربوا من نيلها, وأكلوا من زرعها, واستدفئوا من شمسها, مما أضفي علي كنيستها طابعا روحيا خاصا. ويعترف المؤرخون القدامي و المحدثون, بأن كنيسة مصر عبر تاريخها الطويل هي كنيسة كبري, ومميزة, ولها مكانة فريدة وسط كنائس العالم, وها بعض من ملامح هذه الكنيسة الكبري: 1- كنيسة رسولية: تتميز الكنيسة المصرية بأنها كنيسة رسولية, بمعني أن الذي أسسها وجاء بالكرازة إليها هو أحد رسل السيد المسيح مباشرة, وهو الرسول مارمرقس الذي استشهد علي أرضها, واختلطت دماؤه الطاهرة بترابها النفيس. وبطريركها هو خليفة مارمرقس الرسول من خلال سلسلة من البابوات منذ العصر الرسولي ودون انقطاع حتي الآن, ونحن عندما نقول مثلا إن البابا تواضروس الثاني( حفظه الله) هو البطريرك المائة والثامن عشر في تعداد باباوات الإسكندرية, فإن هذا يعني أنه هو البطريرك ال118 بدءا من البطريرك الأول مارمرقس الرسول. وهذا الأمر جعل هذه الكنيسة تعرف بأنها كنيسة تقليدية قديمة مما جعلها تحافظ في تقاليدها وطقوسها وعباداتها علي ما تسلمته من الأولين. 2- مدرسة الإسكندرية اللاهوتية: قبل ظهور المسيحية بزمن طويل اشتهرت مدينة الإسكندرية بمدارسها الفلسفية المتنوعة, و من بينها مدرسة المتحف أو الميوزيم التي أسسها بطليموس الأول, ومدرسة السيرابيوم ومدارس أخري كثيرة انتشرت في ربوع البلاد. وعندما جاءت المسيحية إلي مصر, قام القديس مرقس بتأسيس مدرسة الإسكندرية المسيحية, كطريق لتثبيت الدين الجديد علي أساس روحي وعلمي راسخ. وبعد سنوات قليلة صارت هذه المدرسة أكبر مركز للعلوم المسيحية في العالم كله يدرس فيها الدارس العلوم الدنيوية المختلفة, إلي جانب العلوم المسيحية. هذا وقد جذبت هذه المدرسة عبر تاريخها عددا كبيرا جدا من الطلاب الوافدين للدراسة بها من مختلف بلاد الشرق والغرب, وتخرج منها طلاب, صار بعضهم أساقفة وقادة ورعاة سواء للكنيسة المحلية( مصر) أولكنائس أخري في العالم. مدرسة الاسكندرية والمجامع المسكونية: المجامع المسكونية هي المجامع التي يحضرها آباء اساقفة من كل كنائس العالم, لذلك فقرارتها تعني أنها اتفاق العالم المسيحي كله. ومن يدرس المجامع المسكونية الأولي في القرون الخمسة الأولي, حتما سيدرك أن آباء كنيسة إسكندرية كانوا أبطال إيمان وقادة فكر علي المستوي المسكوني, يسندهم في هذا لا سلطة أو سياسة بل مركزهم الروحي التقوي اللاهوتي والإنجيلي. مجمع نيقية325 م: وقف في هذا المجمع البابا ألكسندروس بابا الإسكندرية البطريرك التاسع عشر, ومعه شماسه العظيم أثناسيوس, وكانت لهما الصدارة والكلمة الأولي في المجمع الذي حضره318 أسقفا, وكان بحق أثناسيوس هو بطل المجمع حتي قال له الامبراطور قسطنطين امبراطور روما والذي حضر بعض جلسات المجمع أمام جميع الحاضرين: ياأثناسيوس أنت بطل كنيسة الله. مجمع القسطنطينية381 م: كان البابا الاسكندري تيموثاوس البطريرك الثاني والعشرون هو رئيس المجمع, كما ذكر المؤرخ سوزمين, وذكر أيضا هذا المؤرخ العظيم أن البابا تيموثاوس قد قاد باقتدار جلسات المجمع الذي حضره150 أسقفا من مختلف بلاد العالم. - مجمع أفسس431 م: كان البطريرك القبطي أيضا البابا كيرلس الكبير هو رئيس المجمع الذي حضره200 أسقفا, من كل أنحاء العالم. وما زال إلي يومنا هذا وجود بطريرك أو معلم من الكنيسة القبطية في أي حوار لاهوتي أو مجمع عالمي, يعني الكثير والكثير لكل الحاضرين, إذ يدركون جيدا مكانته من جهة, وقدرته اللاهوتية من الجهة الأخري. 3) الكنيسة القبطية كنيسة نسك ورهبنة: وعرفت الكنيسة القبطية عبر التاريخ باتجاهاتها النسكية في العبادة والممارسات اليومية, مما أضفي علي أبنائها طابعا خاصا إذ تجد الكثيرين منهم يمارسون حياتهم علي الأرض, ولكن عيونهم دائما متطلعة إلي السماء حيث وطنهم النهائي, واضعين دائما قول السيد المسيح الخالد أمامهم: ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه( مت16:26) الحركة الرهبانية: ولعل هذا يفسر أن من مصر نشأت وانطلقت في القرنين الثالث والرابع, كل النظم الرهبانية إلي العالم كله, فقد عاش في صحراء مصر القديس الأنبا أنطونيوس أب رهبان العالم كله, وعاش فيها القديس باخوميوس أب الشركة الذي كان جنديا مصريا وخرج للرهبنة, ولكنه أحس أن نظام التوحد قد لايناسب الكل, فأقام جماعة رهبانية داخل أسوار الدير, كما عاش في صحرائها القديسان أنبا مقاريوس وأنبا آمون وغيرهما من آباء الرهبنة العظام المعروفين عبر العالم كله. هذا وقد ترجم النظام الباخومي( نظام الشركة) إلي اليونانية بواسطة بلاديوس الذي عاش سنوات مع رهبان مصر, وإلي اللاتينية بواسطة جيروم الذي زار مصر أيضا وعاش فيها سنوات عديدة. وجاء القديس والمؤرخ يوحنا كاسيان ليعيش في مصر سبع سنوات ليسجل كتابيه الشهيرين عن الرهبنة القبطية: المناظرات, الدساتير. وهكذا عرفت الرهبنة أول ما عرفت في مصر, ومنها إنتقلت إلي كنائس الشرق والغرب. 4) الكنيسة القبطية كنيسة شهداء: يلقب المؤرخون الكنيسة القبطية بأنها كنيسة شهداء, وذلك بسبب الأعداد غير المحصية التي استشهدت من أبناء الكنيسة عبر تاريخها الطويل, ولعل هذا يعلل إصرار الأقباط علي أنهم قد بدأوا تقويمهم القبطي(المعروف بتقويم الشهداء) ببدء حكم دقلديانوس الروماني283 م إذ قدمت الكنيسة في عهده أعدادا وفيرة من الشهداء. ومن أمثلة شهدائها العظام: الشهيد مارمينا العجايبي, الشهيد مارجرجس المصري, والقديسة رفقة, والشهيدة دميانة, والكتيبة الطيبية التي من بلدة طيبة والتي استشهدت بأكملها(6666 فردا) في أوروبا بمن فيهم قائدهم القديس موريس الذي يوجد كنيسة وأيضا شارع باسمه في سويسرا. والإستشهاد في الكنيسة القبطية علامة من علامات الكنيسة, حتي قيلت العبارة الخالدة عن الكنيسة القبطية دماء الشهداء روت الكنيسة فازدادت ازدهارا ونموا يوما بعد يوم. هذا هو القليل جدا من كثير عن تاريخ وامجاد الكنيسة المصرية( القبطية). لمزيد من مقالات قس د. بيشوي حلمى