كم طفت هذه المدينة الجميلة الساحرة العامرة بأهلها البائسة القاهرة وكم جبت شوارعها منذ صباي وحتي الآن, أختزن دون أن أشعر تفاصيل الأشياء, وأسكب فوق سنوات عمري ذكريات بمذاق الوطن, ذلك المعني النبيل الذي طالما تتشدق به الحناجر ببأس ما يلبث وأن يخبو مع طول الزمن ما دام الإحساس بالوطن يفتقر إلي ما يجدد الشعور به, سواء تنبه هذا الشعور بفضل كارثة أو حتي بفضل مجرد أغنية تعيد النبض إلي معني اعتاده الناس ولم يشعروا بقيمته الحقيقية الوطن!! وهذا دأب الدول النامية المستقرة شكليا, وهي التي تستقر في حقيقة أمرها فوق فوهة بركان من مشكلات قادرة بين ليلة وضحاها علي أن تحرق الأخضر واليابس معا!! أنوار متلألئة, وزحام سيارات رهيب, وباعة جائلون يفترشون معظم الأرصفة, وقطعان من كلاب ضالة وقطط أكثر ضلالا تجوب الطرقات بحثا عن لقمة سائغة, وشحاذون كثر, وبعض من مختلين عقليا يهيمون علي وجهوهم شديدة الاتساخ يهابهم الناس ويتجنبونهم خيفة, ولكن إذا ما اضطررت إلي المرور بجانبهم تجدهم في واد آخر لا يأبهون بأحد!! ومناد ينادي من مكان بعيد في محاولة للاسترزاق, ومندوب شرطة راح يلصق ما يفيد بمخالفات مرورية( غير منطقية) علي زجاج السيارات, وونش للمرور يجوب الشوارع مصدرا صوت سارينة مهيب, وسارينة أخري مختنقة تصدر عن سيارة إسعاف تستصرخ السيارات من حولها أن تسعفها وتفتح من أمامها الطريق.. وتحت البناية التي أقطنها شرذمة من صبية لا يتوقفون لحظة أو يثنيهم عزم عن اللعب بالكرة رغما عن أنف الجميع, فينبري أحد الجيران فينهرهم بل ويتمادي آخر باختطاف الكرة ذاتها منهم فيعودوا في اليوم التالي بكرة غيرها فيلعبون!! .. هكذا المدينة وهكذا حالها الذي طالما تشدقنا بالشكوي منه, ولكنني ومنذ أيام قليلة طفت المدينة ليلا فلم أجد نبض هذه المشاهد كما كان; فالمدينة حزينة.. المدينة مغرقة في الحزن من جراء ما أصابها من مشاهد غير مألوفة بالنسبة لأهلها!! المدينة الساهرة بطبيعتها قد أفرغت حمولتها وتحولت شوارعها العامرة إلي مدينة أشباح فجأة; تقطع فيها المسافة من أولها إلي آخرها في دقائق معدودات!! أين تلك الوجوه؟ وأين الضوضاء؟ وأين الزحام؟ بل أين الصبية تحت البناية التي أسكنها وأين الكرة؟ ماذا دهاني؟ هل تراني أفتقد كل هذه السلبيات التي كنت أمقتها؟ ليس معقولا أنني أفتقد الزحام والضوضاء؟.. ولكن الحقيقة هي أنني اليوم فقط أفتقدها بالفعل!! ولا أعلم سببا واضحا لتفاعل فيض من ذكريات بداخلي, لأجد نفسي أعدو بسرعة البرق بين أطلال ذكرياتي أستبعد منها ما أستبعد وأقفز فوق الكثير منها مستهدفا عائلة بعينها كانت قد سقطت تماما من رأسي مع مرور الزمن, إنها عائلة جار لي كان يدعي بسام, وهي عائلة لبنانية سكنت في البناية المجاورة لنا تحديدا في العام1975, والتاريخ خير دليل علي سبب قدومها إنها الحرب الأهلية اللعينة بلبنان التي أفرغت لبنان من محتواها رويدا رويدا وأبقت علي شراذم متقاتلة تسحق الأخضر واليابس بدون تمييز, أما عائلة بسام فقد رأت في مصر آنذاك ملاذا آمنا فقدمت, ولا أنسي أفراد هذه العائلة وهم يتغنون ليل نهار بأغنيات لبنانية لا تفارق شفاههم أبدا وكثيرا ما صاحب ذلك استخدام للطبلة والرق!! ولا أخفي تعجبي من هذا السلوك الغنائي المستمر الذي كانت هذه العائلة تنتهجه, حتي أننا كنا نتخافت فيما بيننا المصريين بأنه من الواضح أنها اعائلة أنسب!! وتصورنا أن فتياتهم وكن كثر سيكن صيدا ثمينا بالنسبة لنا نحن المراهقون آنذاك!! ولكن هذا لم يحدث مطلقا ولم يكن سوي خيالا مريضا من جانبنا; إذ لم ينتبه أحد منا إلي فكرة افتقاد هؤلاء للوطن وأن الأغنيات التي كانوا يتغنون بها لم تكن سوي محاولة يائسة ولكنها ضرورية للامساك بخيوط الدخان الأغنيات استدعاء للحنين الشديد للعودة إلي الوطن!! وأجوب المدينة الصامتة ليلا القاهرة وأتذكر تصريحا رسميا قد خرج لتوه ينبه الأذهان إلي مؤامرة كبري لمهاجمة بنايات حيوية بالبلاد, فألقي النظر ذات اليمين وذات الشمال:( يا نهار اسود), ما أكثر المباني بهذه المدينة, بل ما أكثر المباني الحيوية بها!! كيف السبيل يا ربي لحماية كل هذه البنايات؟ أترانا نضع الجنود من حولها؟ أي عدد من جنود هذا الذي يكفي للانتشار حول كل هذه المباني؟ ثم أي عدد من الجنود هذا الذي يستطيع أن يصد( كل) هذه الجحافل من حملة المولوتوف, والحجارة, والأعلام؟! ثم أي قوات إطفاء تلك التي يمكنها أن( تلاحق) علي كل هذه الحرائق إن هي اشتعلت في اتجاهات عشوائية في وقت واحد أو حتي في أوقات متفرقة؟ يا إلهي, يبدو أنني أعيد اختراع العجلة!! بل يبدو أننا جميعا قد قررنا أن نعيد اختراعها!! أتري مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي يجب عليه أن يحمي بناياته الحيوية؟ ماذا عسي البلدان الأخري فاعلة إذن؟ ثم ماذا عسي بلدان أخري تضم بنايات أكثر حيوية من تلك التي ندعي نحن حيويتها؟ إن النظرة الأمنية الدائمة للأشياء هي نظرة بطبيعتها قاصرة; ذلك لأن تأمين أي منشأة مهما بلغ من تحصينات لابد وأن مصيره إلي زوال تحت نير الضغط والإلحاح الهجومي هكذا تطالعنا أعتي النظريات العسكرية خبرة!! كيف السبيل إذن؟ إن السبيل الوحيد هو إضعاف قوة الضغط ذاتها, إن السبيل الوحيد لإبطال مفعول قنبلة أي قنبلة هو ليس التحصن تجاهها فحسب, وإنما نزع فتيلها إن استطعت إلي ذلك سبيلا فلا يتولد الضغط, فلا تنفجر, بل وتصبح القنبلة ذاتها حينئذ مجرد قطعة صماء من حديد لا خوف منها أو عليها!! ماذا إذن لو أن القنبلة ليست من حديد أصم وإنما قنبلة من بشر؟ كيف السبيل إلي نزع فتيل قنبلة أو قل قنابل من بشر؟! وهنا أعود بك سريعا إلي العام1936 لأسمع معك بيانا عبر الراديو استقبله أهالي العاصمة الإسبانية مدريد, ذلك البيان الذي وجهه الجنرال الوطني إميليو مولا في غمار الحرب الأهلية الإسبانية, حيث ذكر في البيان أن الطابور الرابع من قواته يتوجه الآن إلي مدينتهم ليحررها; وأنه سيلقي دعما من( طابور خامس) داخل المدينة عقد العزم علي إسقاط الحكومة الجمهورية من الداخل!! ومنذ تلك اللحظة ومنذ هذا البيان تحديدا انطوي تعبير( الطابور الخامس) علي معني آخر وأصبح مصطلحا ينسحب علي أي تواطؤ( خفي) من الداخل!! وما أكثر( الطوابير) الخامسة في هذا البلد بصراحة ربما بدون علم المنتمين إلي هذه الطوابير!! إن الملايين من أطفال الشوارع المتروكين بلا هدف لسنوات وسنوات( طابور خامس)!! إن المطحونين مثلهم في العشوائيات بعلمنا جميعا( طابور خامس)!! إن( النطيطة) و(الهبيشة) من( هواة) الإعلاميين, يتخبطون أمام كل حدث وأي حدث فلا تعرف لهم توجها أبدا و(علي كل لون يا باتسته) هم( طابور خامس)!! إن الواقفين دون هدف وسط المصادمات فلا هم معارضون ولا هم تاركون للساحة( طابور خامس)!! إن الصامتين الساكتين عن الحق( المبين) الدامغين للحق بالباطل المشوشين فكريا غير القادرين علي تحديد العدو من الحبيب هم( طابور خامس)!! إن مدمني الاعتصامات بسبب وبغير سبب( طابور خامس)!! إن المطالبين بالحقوق وقت تفاقم الأزمات هم( طابور خامس), حتي وإن كان الحق معهم!! إن مروجي الشائعات( عمال علي بطال) وقت تصاعد المواجهات( طابور خامس)!! وأخيرا.. إن البنايات لا يحميها الجند وإنما يحميها إحساس الناس بمعني الوطن!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم