محمد كشيك مبدع معجون بشعر العامية, وناقد موهوب استغل مهاراته لتعقب جماليات النص الخفي في إبداعات الآباء المؤسسين لشعر العامية, بيرم التونسي, وفؤاد حداد, وصلاح جاهين. فلم يكتف بهضم أشعارهم, ولا اجترارها مثل غيره, بل بادر باستكشاف الكوامن خلف نصوصهم المعروفة, ليدخلنا إليها من زاوية غير مطروقة, في كتابه جماليات النص الخفي, الذي يكشف أن لكل نص ظاهر نبعا خفيا, بمثابة خزان مياه جوفية, لانراه, لكننا نلمس آثاره, فيما ينتجه من صور تتميز بالحيوية والجمال. وصلة الخفي بالظاهر تبدو كعلاقة الجذر بالزهرة, فهو يدفع عصير الحياة بعروق النص الظاهر, ليشكل المستويات الداخلية له, ويشحنها بمختلف الطاقات وكلما غاص أعمق ازدهرت الزهرة. ويري كشيك أن النص الخفي: يتشكل من التراكيب اللغوية والخبرات الفنية والأبنية النغمية والطاقات اللغوية إضافة لموهبة الشاعر وقدرته علي المغامرة والتجريب وتوظيف الأدوات الفنية والجمالية. ويستشهد في كتابه بكثير من درر الثلاثة الكبار, أحببت الاستضاءة ببعضها, لعلها توضح الفكرة, فهو يرصد مثلا أسلوب بيرم التونسي في مناقشة بعض المظاهر الاجتماعية السلبية, ويلفتنا الي الجزء الغاطس من قصيدته الدجال التي تنتقد تفشي الفساد, بمفردات من الواقع, وتظهر المجتمع كبؤرة فعل سالب, وأرجو أن تلاحظوا طزاجة المعاني وتجددها وكأنها آنية, وكذلك الإيقاع القريب للأذهان: في كل مكان مسيخ دجال يعيش سلطان علي الجهال مسيخ المال عمل شركات عليها مدير, من البهوات وباع في السوق, ألوف سندات وحاز ملايين, قبضها وشال ومسيخ أحزاب, خطيب نصاب كلامه صواب, وفعله هباب وله أطيان, وله دكان, وله صبيان, وله جورنال ومسيخ أديان, ظريف وخبيث, يبيع قرآن, علي أحاديث وهذه التراكيب الفنية واللغوية مكنت بيرم التونسي من التعبير عن الخلل الاجتماعي برشاقة وبلاغة, واستخدام مأثور ديني مثل كلمة مسيخ دجال بإخراجها من سياقها التاريخي, ليجعلها أكثر تنوعا واتساقا مع المناخ العام, وينتج دلالات جديدة وخلاقة, تتعدد بها الرؤي, والمستويات. وكان فؤاد حداد بنظر كشيك : يدرك بشكل شبه يقيني طبيعة ذلك الدور الريادي الذي يقوم به, وفداحة المسئولية الملقاة علي عاتقه باعتباره الانقلابي الأول في حركة شعر العامية, حيث أعاد اكتشاف الأشكال التقليدية برؤية متقدمة عبر عمليات استبدال مستمرة للوصول الي العمق الشعري بالتداعي الخلاق, واستخدام مبتكر للصورة, المحرك الأول للفعل الشعري, مثلما فعل في القالب الراسخ للموال, بالتقسيم والتقطيع, والتفنن العروضي بإيقاعات جديدة, كما قطر العبر, والمغزي الإنساني بشموخه وتألقه في المسحراتي, واسطة العقد, والبناء الإعجازي لدي فؤاد حداد, والتوليفة العبقرية التي لم يسبقه إليها شاعر: لما تقول أجمل ما في الدنيا, المية للعطشان يعرفوك عربي لما تقول إبني اتولد لاجيء يعرفوك عربي لما تقول يارب يعرفوك عربي لما تباشر جهادك ترمي أوتادك في قلب دابح ولادك يعرفوك عربي وتمكن حداد من تحطيم البناء التقليدي لقصيدة العامية. وأبدع معمارا جديدا, مكنه من استيعاب الإيقاعات البسيطة والمعقدة التي صارت من علامات الشعر الحديث: يا حضرة الباشا فاكر ياما سحرتك ودمعي تحت القمر, بالليل مسح حارتك وقلت لك خلي قطفة لك وقطفة لي وربنا يخلي أطفالك وأطفالي ولا كنت بتصلي يا باشا ولابتصوم غير كل حبة علي السبحه تقول: مخصوم وكنت ياباشا مابتسمعشي بالعربي وأفلح فؤاد حداد في زعزعة الأسس القديمة لمفهوم العامية, وكرس لمفهوم جديد لجوهر الفعل الشعري وكيفيات الكتابة التي استوعبت أشكالا متنوعة من البني الإيقاعية المتألفة والمتعارضة, مما فتح الباب واسعا للأجيال التالية في التجريب والمغامرة والابتكار. فكانت المغامرة الإبداعية هي الأساس لدي صلاح جاهين, الذي لم يضع قيودا مسبقة تعرقل إبداعاته, فالفعل الشعري عنده يبدو مستقلا, ويمتلك قوانينه الخاصة التي تتجاوز الثبات النسبي للقالب الفني, فالشكل يكاد ينهزم أمام الموهبة الجارفة التي تتحكم في العمق, وتعيد تركيبه ليصبح مجرد مقترح قابل للتعديل والإضافة. والمغامرة لدي جاهين لاتعني سوي الحرية التي تستعصي علي القولبة والنمطية والثبات, فهي فعل حركة وحياة وديمومة, كما نري في قصائد عديدة له, ومنها قصيدة الموتي التي كتبها وقت رحيل الشاعر أمل دنقل: زي اللي في الجورنال في صفحة الموتي قلت الشبه من أين يتأتي قالوا عشان الكل مصريين الكل نفس الهوية نعي المطارنة جنب نعي الشيوخ طالبين سوا الرحمة الإلهية طالعين سوا أمجاد سماوية وقصيدة صلاح جاهين حسب كشيك تبدأ من منطقة معينة, ثم تنمو وتتشكل وفق منطق بنائي خاص, يعتمد علي نشاط لغوي مكثف والعديد من الصور الجزئية, التي تتنافر أحيانا, لكنها تعود لتلتئم في كيان كلي موحد, وموهبة جاهين الأساسية في قدرته الاستثنائية علي تحويل كل ما هو عادي ومألوف, الي شيء خارق ومبدع وخلاق, كما يبدو في أغلب أشعاره, ومنها قصيدته ذائعة الصيت علي اسم مصر: علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ماشاء أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب وباحبها وهي مرمية جريحة حرب بحبها بعنف وبرقة وعلي استحياء وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء وأسيبها وأطفش في درب وتبقي هي ف درب وتلتفت تلتقيني جنبها في الكرب والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب علي اسم مصر الكتاب متخم برؤي مشوقة عميقة, واختيارات شعرية ممتعة لأهم ثلاثة مبدعين في العامية المصرية, والجهد الذي بذله محمد كشيك في الانتقاء والغوص صوب المياه الجوفية لأشعارهم يستحق الإشارة إليه بالبنان, والإشادة بفهم عالم الثلاثة الكبار, وتناول أشعارهم بعذوبة وبساطة وصدق.