المكان.. مصلحة حكومية، الزمان منذ حوالى أسبوع فى العاشرة صباحا، ذهبت ومعى أوراق كاملة لأقضى مصلحة ما، تقدمت للموظف المختص بعد أن جاء دورى فى طابور قصير وسط أصوات تأفف المواطنين واعتراضهم على كل كبيرة وصغيرة، وعندما انتهيت من الإجراءات مع موظف الشباك جلست لأنتظر مناداة اسمى وفى خلال عشرين دقيقة كنت خلالها قد أنهيت مصلحتى، ثم آثرت الانتظار لمدة ثلاث ساعات أخرى ولكن بإرادتى.. غلبنى فضولى لأتابع سلوك المواطنين العدائى - بعد الثورة- وأستمع إلى اعتراضاتهم وتعديهم بمنتهى الجرأة والتبجح على موظفى الشباك والضباط المسئولين فى هذه المصلحة. مواطن يتعدى على ضابط شرطة بصوت جهورى وأسلوب مستفز ويتهمه بأنه لم يتغير بعد الثورة لمجرد أن الضابط طلب منه استكمال الأوراق المطلوبة وإرفاق شهادة إنهاء الخدمة العسكرية وهو لايريد ذلك، فهمست لنفسى "هذا مواطن للأسف جاهل ويبدو أنه لا يعرف القراءة والكتابة، إنه وأمثاله صناعة محلية -صناعة النظام البائد- مائة بالمائة" ووجدت نفسى رغما عنها تلتمس له الأعذار.. وهناك مواطن آخر يبدو عليه الوقار ويبدوعليه أنه سليل طبقة راقية ومن المفترض أنه يحترم القانون.. ولكن سرعان ماخاب ظنى حتى فى المتعلمين المثقفين، فهو يعترض لأن الضابط طلب منه صورة حديثة بدلا من الصور القديمة التى يصرعلى تقديمها برغم أن الضابط أشار له بوجود مكان للتصوير الفورى فى نفس المبنى ولكن فى طابق مختلف وأن الأمر لن يستغرق منه سوى دقائق، ولكن المواطن الذى يبدو عليه الوقار سرعان ما خرج عن وقاره وكشف عن استغلاله للثورة والظروف التى تمر بها البلاد من انفلات أخلاقى وأمنى، ولم أجد له أى أعذار.. وهذه مواطنة أخرى تصرعلى أن تقضى مصلحتها فى الشباك الخطأ بحجة أنها انتظرت طويلا فى الطابور، وآخر يصيح لمجرد أن موظف الشباك ترك مكانه لدقائق معدودة ليذهب لدورة المياه، هكذا مرت الساعات الثلاث وأنا أشاهد سلوك المواطنين المعيب الذى يصدرمن بعضهم نتيجة جهل ومن البعض الآخر نتيجة استغلال ومن البعض الثالث نتيجة انتقام وثأر قديم.. أما الموظفون والضباط فملتزمون بتعليمات ضبط النفس.. أوعلى الأرجح ضبط الضغط و"الطبطبة" على الجمهور إلى الحد الذى أعتقد أنه سوف يدفعهم فى النهاية إما بارتكاب جريمة قتل أوالاقدام على الانتحار إذا استمرت الأوضاع على ماهوعليه.. وجدت نفسى أتجول فى المكان وأتعاطف مع المسئولين فتحدثت معهم لأكتشف أنهم ساخطون جدا على الاعلام ويتهمونه بالخيانة والتركيز فقط على الحالات السلبية، أما ما يتعرضون له من سوء سلوك من المواطنين وتعد فى بعض الأحيان فلا يتم الاشارة له فى الاعلام عمدا.. وعندما تساءلت لماذا لا تتخذون إجراءات ضد أمثال هؤلاء المواطنين الذين لايحترمون أى قانون أوأخلاقيات فجاء الرد عجيبا بأنهم لابد أن يتركوا أماكنهم ويذهبوا إلى قسم الشرطة لعمل محضر بالواقعة.. فهل يعقل أن يتركوا أماكنهم فى خدمة المواطنين لعمل محضر لكل حالة تعد يتعرضون لها! خرجت من هذه المصلحة بعد أن عقدت النية على العودة فى اليوم التالى بعد الحصول على "التصريح اللازم" لكتابة تحقيق صحفى عن سوء سلوك المصريين بعد الثورة.. لم يكن الحصول على التصريح اللازم بالأمر الصعب بل بالعكس.. وبالفعل ذهبت للتحدث مع الموظفين والضباط ولكن هذه المرة بشكل رسمى.. ومن هنا كان اكتشافى للهوة الرهيبة بين القيادات وما يسمى بالمتحدث الرسمى باسم الوزارة وبين من يعملون فى ظل هذه القيادات.. المسئول عن العلاقات العامة فى هذه المصلحة كان أول من قابلت عندما عدت فى اليوم التالى وكانت نصيحته لى بهذا الصدد "أنصحك لوجه الله تعالى: إذا كتبتى ما رأيت من سوء سلوك المواطنين سيتم اتهامك بأنك من الفلول لذلك أنصحك أن لا تأخذى صف الموظفين والضباط إلى ذلك الحد"!! ثم علمت أنه ليس مسموحاً لى إلا أن أتحدث أولا مع رئيس هذه المصلحة فذهبت وأنا غير متفائلة بالمرة بعد أن أصابتنى تلك النصيحة العبقرية بالذهول.. وكانت المقابلة التى لم تستغرق سوى خمس عشرة دقيقة أمضيناها فى جدل لا طائل منه حيث كان مصرا أن ما رأيت فى اليوم السابق ماهو إلا حالات نادرة جدا واستثنائية وأن الوضع بعد الثورة –من وجهة نظره- أفضل، وأن موظفيه وضباطه لا يتعرضون إلى أى نوع من الإساءة أوالتعدى وأنه لا ولن يقبل بهذا الوضع هذا إن وجد من الأصل.. لم أستطع أن أتمالك نفسى وأصررت أنا الأخرى على أننى لاأستطيع أن أصدقه وأكذب ما رأيت بعينى، وتزايد الجدل بيننا ما بين إصرارى وإصراره، وبات من الواضح جدا أمامى أن السبب فى اختلاف الحقيقة التى رأيتها عن الرسالة الكاذبة التى يريدون وصولها للناس من خلال الاعلام هو "التصريح"، وخرجت من المصلحة مصابة بنفس الحالة التى لمستها فى كلام الموظفين فى اليوم السابق"الاحباط والارتياب" فى كل الأوضاع .. لمصلحة من؟ من يجيب على هذا السؤال.. ولماذا يتعمد المتحدث الرسمى الاستمرار فى غيبوبتة؟ وإلى متى؟ وكيف لنا أن نصدق أية تصريحات رسمية يصدرها المسئولين فيما بعد؟ أم أن مرض الازدواجية الذى توهمنا أنه قد انتهى بعد الثورة قد تفاقم! أم أننا بتنا فى حاجة ملحة إلى "زار" أو "عمل" لتحقيق مبدأ الشفافية مادامت الثورة المصرية العظيمة لم تنجح فى تحقيقه إلى الان.. الشفافية التى طالما حلمنا بها من أجل وضع أفضل من خلال مواجهة حقيقية لمشاكلنا ومن ثم علاج حقيقى وأبدى لها.. المزيد من مقالات ريهام عادل