لم تقم الوحدة بين مصر وسوريا لأسباب القومية العربية التي كانت وراء المخلصين الذين حلموا بالوحدة العربية, وإنما لإنقاذ سوريا من الوقوع في براثن الشيوعية, فكان أن قررت مجموعة الضباط السوريين الذين خشوا من ذلك في التعلق بعبد الناصر واستخدام الوحدة مع مصر جسر انتقال يعبرون به خطر الشيوعيين, يقول عبد الناصر, وأنقل من محضر اجتماع مجلس الوزراء برياسته يوم11 أكتوبر1691 الصفحة الثالثة ما نصه: لقد فرضت علينا الوحدة عام8591, وفي الحقيقة أننا قبلنا هذه الوحدة وضحينا في سبيلها, كنا نعتقد أن الوحدة لا يمكن أن تتم بهذه السهولة, وإذا بدأت فستبدأ معها المتاعب, قبلنا الاتحاد بناء علي طلب المسئولين في سوريا وضحت مصر في عام8591 بالكثير لتنقذ سوريا من الضياع والانهيار الحتمي الذي كانت معرضة له, وتمت الوحدة, ثم بدأت العناصر التي طلبت الوحدة كل منها يريد استخدام الوحدة لتحقيق أهدافه, الرأسماليون والبعثيون ورجال الجيش أيضا, وطبعا كانت توجد مدافع مصوبة إلينا لا حصر لها سواء من الرجعية العربية أو من الذين يخشون انتشار المد العربي... وقد عادت الأمور في سوريا إلي ما كانت عليه سنة8591 بل إلي أسوأ مما كانت عليه, فقد كانت سوريا دولة صديقة قبل هذا التاريخ, والآن أصبحت سوريا معادية لوجود الحكومة الحاضرة والعناصر التي تحكمها معادية أيضا... المدافع أصبحت مصوبة إلينا ويمضي عبد الناصر في كشف أسرار التاريخ فيقول: قبل82 سبتمبر كانت المدافع مصوبة إلي دمشق أو بمعني أصح كانت مصوبة إلينا في دمشق, واليوم أصبحت مصوبة إلينا في القاهرة, ولهذا, فنحن نمر اليوم بفترة من أدق الفترات لأن جميع القوي ضدنا والمكاسب التي حققناها والشعبية التي حصلنا عليها تستدعي من أعدائنا أن يركزوا جهودهم للقضاء عليها... ولهذا فنحن نعتبر أن نقطة البداية تبدأ من اليوم, ومن المشكلات التي قابلناها والأمور التي مرت بنا السلبية واللامبالاة التي وجدت في بعض العناصر نتيجة خطأ أساسي كنا نمارسه, وهو الاهتمام بالخطة وبمشروعات العمل فقط دون الاهتمام بالعمل السياسي التنظيمي, ودون الاهتمام بتصوير كل أمورنا السياسية حتي نعبيء كل القوي في جانبنا, لقد أقمنا في سوريا سد الرستن وأقمنا مشاريع كثيرة جدا مثل سد الفرات, وخطوط السكك الحديدية, وغيرها, ولكن هل هذا يكفي؟ إننا لم نكن ننبه الناس إلي ما نعمله من أجلهم, وإذا لم ننظم أنفسنا تنظيما سياسيا يعبيء جميع الجهود في الناحية السياسية, كما عبأناها في الناحية الاجتماعية فإن ذلك يؤدي إلي وجود حالة لا مبالاة لدي الناس تجعلهم سلبيين. ويمضي عبد الناصر أكثر في كشف آثار الانفصال علي تفكيره فيقول: لقد كانت لنا بعض تصورات خاطئة في بعض الأمور أظهرتها حوادث سوريا, التصور الأساسي والاعتقاد بأننا يمكن أن نقيم تنظيما شعبيا يجمع كل الفئات, وكل الطبقات, وكنا نقول إننا نهدف إلي القضاء علي الصراع الطبقي في إطار من الوحدة الوطنية, وفي إطار سلمي, ولكن نوايا الآخرين والحوادث أثبتت غير ذلك. مأمون الكزبري الذي قاد حركة الانفصال وترأس الجمهورية السورية بعد الانفصال لمدة أقل من شهر كان عضوا بارزا في الاتحاد القومي في دمشق, وكان رئيسا لنقابة المحامين, وكنت أراه يشيد بالوحدة, وكذلك عدنان القوتلي وعصاصة والضباط الذين قاموا بالحركة الانفصالية كانوا يشيدون بالوحدة, النحلاوي مثلا, الذي كان يعمل مع المشير عبد الحكيم عامر, شخص كان يبدو عليه من أخلص الناس الذين يمثلون الوطنية والإخلاص, وعصاصة أيضا الذي كان يدير سلاح الطيران مظهره يبدو, وكأنه من أحسن العناصر الوطنية, ولكننا نسينا أمرا آخر وهو أننا إذا فتحنا دفتر دليل تليفونات دمشق نجد صفحتين باسم عصاصة والنحلاوي, وهذا يدل علي أنهما من طبقة الرأسمالية, وقد أخذنا نحن بالمظهر الذي كان يبدو أمامنا بالنسبة لهما وهذا نتيجة الطيبة التي كنا نسير بها. لابد أن نتعلم من درس سوريا ومن سوريا ينتقل عبد الناصر إلي الحديث عن مصر قائلا: نخرج من هذا بنتيجة وهي أننا عندما كنا نشكل الاتحاد القومي الذي تغير بعد ذلك إلي الاتحاد الاشتراكي كنا نجمع كل الناس حتي يكون الصراع في إطار من الوحدة الوطنية, وقد أثبتت الأحداث أن هذا كان خطأ, ولابد من تغييره, جميع الإقطاعيين كانوا يتكلمون عن الوحدة, وكان عملهم المهادنة حتي يجدوا الفرصة, لقد وقعنا في الخطأ نفسه والأساس كله لابد من تغييره, ولابد من إيجاد تعريف للقوي الشعبية التي يجب أن نعتمد عليها, ولكن الآخرين كانوا أقوياء ويمتازون بالمهارة ويستطيعون الوصول إلي مكان الصدارة, وعند الحاجة إليهم وقت الشدة يظهرون علي حقيقتهم, وأذكر في سنة4591 أنه كان هناك أناس ممن يعملون حتي اليوم رفعوا يافطات هيئة التحرير أول منظمة سياسية أقامتها ثورة يوليو لجمع فئات الشعب, وقد تغيرت بعد ذلك إلي الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي عندما قيل لهم إن الثورة قد انتهت, وفي سنة6591 حصل الشيء نفسه, وبرغم هذا تركناهم, ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا اتباع العناصر المؤمنة فعلا بالثورة بسياسة اللامبالاة, وكما ترون أن الأشخاص نفسهم الذين كانوا يتصدرون في الماضي هم أيضا الذين يتصدرون اليوم, وفي دمشق كان هناك أناس يرفعون الصور ثم يعيدونها أربع مرات في اليوم, يرفعون صورة عبد الناصر ثم يعيدونها إلي مكانها لأنهم ينتظرون نتيجة الصراع ومعرفة القائد ليمشوا في ركابه, وهذه دروس لابد أن نتعظ منها... ومازالت القراءة مستمرة في واحدة من أهم وثائق التاريخ التي مضي عليها اليوم خمسون سنة. ge.gro.marha@tnomhalas