مما لاشك فيه أن الأحداث الراهنة التي تمر بها مصر تفرض علينا أن نتوقف قليلا لكي نتفكر بعمق وتعمن فيما يجري ولاسيما أنها تحمل نذر الخطر علي حاضر الوطن ومستقبله. ولا أبالغ في اعتبار ان اخطر بواعث هذا الخطر هو حدوث تمزق للنسيج الوطني لمصر تحت وطأة الممارسات الجاهلة غير الواعية بطبيعة هذا الوطن وكيانه الحضاري وعمقه التاريخي, ولاسيما عندما تأتي هذه الممارسات من قبل البعض ملتحفة بعباءة الدين لتخوض بها في معترك الحياة السياسية, ولتجعل من الدين والعقيدة برغم قدسيتها أداة ووسيلة من وسائل العمل السياسي مستغلة مسألة الدين الراسخة في كيان المصريين منذ آلاف السنين وإيمانهم العميق. فقد قامت ثورة25 يناير لتحرر الشعب المصري بمختلف فئاته وطوائفه وجماعاته من القيود والأغلال التي رزح تحتها لمدة ثلاثين عاما, لكن الكثيرين ممن حررتهم هذه الثورة من الأفراد أو الجماعات أو الفئات تحرروا من كل شيء تقريبا لدرجة أنهم التفتوا للثورة نفسها محاولين الانقضاض عليها ومصادرة نتائجها ومنجزاتها لحسابهم ولتحقيق أهدافهم الخاصة الضيقة وان كان علي حساب الثورة والشهداء والوطن, كما ان مناخ الحرية المطلقة السائدة منذ25 يناير إلي اليوم في ظل عدم وجود ضوابط ذاتية من الثوابت الوطنية والعقائد الدينية السمحة أو القيم المصرية الأصيلة لدي الكثيرين جعلت الأمور تخرج عن نصابها ومسارها السليم بحيث تكاد تجنح بسفينة الوطن لترتطم بصخور الفتنة الطائفية وتفتيت المجتمع. فقد خرج كل من هو غير مؤهل ليفتي في كل شيء وليقضي في الناس بحكمه الشرعي في امور الفرد والأسرة والجماعة والوطن, فأفتي أحدهم أن زواج أحد افراد جماعته من إحدي المنتميات إلي الجماعة هو عند الله أفضل وأصلح مما لو تزوج من مسلمة من عرض الناس لاتنتمي إلي الجماعة باعتبارها في مرتبة ادني, وفي مشهد آخر اشتبك بعض المنتمين إلي جماعة أخري مع احد الشباب في اثناء التظاهرة امام السفارة الإسرائيلية وأبعدوه لمجرد تبينهم انه قبطي, وفي مشهد ثالث يصف أحدهم شباب الثورة الذين استشهدوا بأنهم ملحدون كان قدرهم المكتوب ان يموتوا لتنجح الثورة, أي هذيان هذا الذي يقضي بفرز المجتمع المصري وتصنيفه وتمييزه وتكفيره من جانب البعض بأعمال واقوال غير مسئولة تستوجب التجريم باعتبارها ستؤدي إلي تفتيت هذا المجتمع والقضاء عليه. وفي ظل التغييب المتعمد من النظام السابق طوال الثلاثين عاما الماضية للأزهر الشريف وتحجيم دوره التنويري والحضاري, ظهر أيضا هواة الإفتاء ونجوم الإعلام السياسي الديني القادرين علي ابداء الرأي في كل شيء وأي شيء من جوانب الحياة من التفسير والأحكام مرورا بالعقائد والعبادات وجميع الأمور. وهكذا ففي ظل الارتباط الشديد بين المصري وديانته وعقيدته نجح هؤلاء في استغلال هذه المسألة وصار الدين هو الوتر الحساس الذي يضرب عليه الجميع للوصول إلي مبتغاهم وأغراضهم, وانقاد العديد من الناس بطبيعتهم الطيبة المؤمنة لكل من يتحدث في أي موضوع مادام قد تزين حديثه بالسور والآيات والأحاديث وهي ولاشك خير الكلمات وأقدسها, لكن استخدامها في سوق السياسة ولأغراضها هو الذي يبعث علي التحفظ بشأن هؤلاء الذين يتأولونها لخدمة أغراضهم وأهدافهم السياسية وحتي في الإساءة لمخالفيهم بتكفيرهم ورميهم بالالحاد والتجديف في الدين, وما أبرعه من سلاح باترا, فكيف لإنسان ان يقدم الحجة والمنطق في مسألة سياسية نسبية في مواجهة العالم المطلق للدين؟. إن دور العبادة لها دورها المحدد كبيوت لله تتم فيها شعائر العبادة والصلوات وهي مكان مقدس لصفاء النفس وسكينة الروح بالتقرب إلي الله سبحانه وتعالي, وهي محل لبث القيم الروحية السامية لحياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة المصرية ككل, ولم تكن أبدا كما نراها اليوم تكاد تتحول إلي مقار غير رسمية للأحزاب ومعاقل للناخبين ومراكز للحشد والتجمع ومنابر للتحريض والمساجلة في المعارك السياسية, هذا يخرج بها عن دورها الديني القويم لتسقط في براثن العمل السياسي, ولنذكر حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا: لااربح الله تجارتك! وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة, فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك, والأمر نفسه يمتد إلي الكنائس متذكرين قول السيد المسيح عليه السلام: اعط مالقيصر لقيصر وما لله لله. ولايمكن بأي حال من الأحوال إعفاء الإعلام من مسئولية الاحتقان الديني والطائفي الذي تتعرض له مصر, فالممارسات الإعلامية غير المسئولة سواء من جانب بعض الصحف والمجلات التي تسعي للتمييز وتحقيق السبق الصحفي وطرح الموضوعات المثيرة لاجتذاب القراء لإصداراتها, أخذت في وضع الموضوعات والشخصيات الدينية في بؤرة اهتمامها, فصارت تميل إلي تضخيم الأحداث واعطاء أبعاد أكبر لأي أخبار أو موضوعات وتحميلها أكثر مما تحتمل مع ابراز العناوين البارزة الرنانة والمثيرة, متجاهلة النتائج المأساوية لهذا الشحن الإعلامي, والامر نفسه للقنوات الفضائية التي تعددت وتشعبت توجيهاتها واهدافها وسياساتها ففتحت ابوابها لكل طارق يرغب في التحدث في شئون الوطن والدين مادام قد حقق الإثارة الجاذبة للمشاهدين بتصريحاته وأقواله ومعاركه.. إن أكثر مايتمناه اعداء مصر لمصر هو مشاهدتها تخوض في مستنقع الفتنة وغياهب الانقسام والتصارع وشيوع الفوضي في ارجائها, الأمر يقتضي اتخاذ الدابير الحاسمة لسلامة الوطن علي جميع الاصعدة, فمصر الآن تمر بمرحلة حاسمة ودقيقة لتأسيس منظومة جديدة للحياة السياسية التي تليق بالشعب المصري وحضارته وتاريخه ومستقبله, فلتكن هذه المنظومة قائمة علي الأسس السليمة التي نحلم بها جميعا, وليكن أحد أسسها الراسخة الحفاظ علي النسيج الوطني سليما معافي بعيدا عن الطائقية الدينية البغيضة الكفيلة بتمزيقه والقضاء علي نموذج الوحدة الوطنية الخالدة والتسامح الديني الذي نعتز ونفتخر به جميعا. أستاذ اقتصاد النقل والتجارة الدولية