بين ظهر يوم الاثنين 9/26 ومساء الجمعة الماضي 9/30 (أي أقل من خمسة أيام) سافرت- ضمن وفد المجلس المصري للشئون الخارجية, برئاسة السفير د. محمد شاكر- إلي الصين, لزيارة معاهد الصين المتخصصة في الشئون الخارجية في بكين أو: CICIR (وذلك هو اسم المنظمة التي تكفلت بالدعوة هناك). وقد تضمن جدول الزيارة إلي جانب المقابلات وورش العمل المشتركة- زيارة مدينة تيانشنج القريبة من بكين, والتي تعد واحدا من أكبر مراكز الصناعة والمال والابتكار في الصين اليوم, بالإضافة بالطبع إلي الجولات في بكين نفسها أو قربها. وتبدو الزيارة بالطبع قصيرة للغاية, خاصة في ضوء حقيقة أن السفر لبكين يستغرق نحو إحدي عشرة ساعة من الطيران المتواصل من القاهرة, ولكني أعترف بأن تلك الأيام الخمسة كانت كافية لأن أصاب بما يشبه الدوار مما شاهدته ولمسته هناك مع زملائي أعضاء الوفد. والواقع أنني كنت أنوي أن يكون عنوان هذا المقال هو زيارة إلي المستقبل, فذلك هو التعبير الدقيق عن شعورنا, منذ أن وطئت أقدامنا أرض بكين! علي أية حال, فسوف أقتصر هنا علي ثلاث لقطات فقط, ربما أستطيع من خلالها تسجيل بعض الملاحظات ذات الدلالة. اللقطة الأولي تتعلق ببكين نفسها والصين ككل! فلقد سبق لي أن زرت الصين مرتين, الأولي كانت في سبتمبر 2001 ضمن وفد للمجلس المصري للشئون الخارجية أيضا, (ولا يمكن أن تنسي علي الإطلاق, حيث وقعت في أثنائها هجمات11 سبتمبر علي برجي التجارة العالمية في نيويورك!). وكانت المرة الثانية منذ نحو خمس سنوات. وكل ما أستطيع أن أقوله إن المقارنة بين المرات الثلاث تصيب المرء بالذهول من سرعة وحجم التغيير والتقدم الذي يصعب وصفه بكلمات معبرة. إن بكين تعد وتنمو, لكي تكون ليس عاصمة للصين, وإنما عاصمة للعالم كله! فإذا لاحظت أن مدنا كبري في الصين في مقدمتها شنغهاي- تنافسها في الازدهار والاتساع والرقي, لبدت لنا إحدي علامات النهوض غير المسبوق للصين اليوم. ومنذ وصولنا إلي المطار, بدت الصين الجديدة: فالمطار بالغ الاتساع, بالغ الفخامة, بالغ الكفاءة, ولم أكن أعرف أنه في الواقع- أكبر مطار في العالم اليوم. ولأن الصين هذا الأسبوع تحتفل بعيدها الوطني (الذي يستغرق أسبوعا!), فإن الصينيين يتوقعون أن يتعامل المطار مع نحو ربع مليون مسافر يوميا!! (ونعلم أيضا أن هذا المطار, مع مطارين آخرين في الصين, تدرج ضمن أفضل مطارات العالم). غير أن المطار لم يكن سوي المقدمة لبكينالجديدة, فأنت تشاهد ربما أكبر شوارع العالم وأكثرها اتساعا وانضباطا, وانطباعي هو أن عرض بعض الطرق أكثر من كيلومتر, أقول العرض وليس الطول. وبدلا من آلاف الدراجات التي كنت أراقبها في الصباح الباكر من غرفة الفندق تقل الصينيين إلي أعمالهم عام 2001, أشاهد اليوم آلاف السيارات من جميع الطرازات العالمية الفاخرة والعادية (كلها بلا استثناء مصنوعة في الصين, فضلا عن السيارات الصينية تصميما وتصنيعا!) والتي أدت إلي صعوبات هائلة في المرور, والتي أتصور أن الصينيين بالقطع- سوف يفلحون في إيجاد حلول مبتكرة لها. ولا يضاهي اتساع طرق بكين وطولها إلا المباني الهائلة التي تضم أكبر شركات العالم ومؤسساته المالية والاقتصادية العملاقة التي اهتمت بأن تفتح لها فروعا أساسية في مدن الصين الكبري. ولم لا؟, والصين تنتج اليوم كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة: كل شيء! من أبسطه لعب الأطفال وأدوات التسلية, إلي أعقد أجهزة الكمبيوتر, واللاب توب, وآخر مبتكرات الآي فون, والآي بود, والآي باد, التي تمثل قمة الإبداع العلمي والتقني الأمريكي. وبعبارة أخري, فإن كل ما يبتكره الغرب (والولايات المتحدة في مقدمته) تصنعه الصين بمنتهي الإتقان والمهارة, فضلا عن المبتكرات الصينية, بدءا من الألعاب الترفيهية, وحتي السيارات. ومع الارتفاع الهائل في الدخل القومي الصيني, أعلنت الصين عن ارتفاع الإنفاق علي البحوث والتطوير بنسبة 21.7% عام 2010 ولذلك, ليس غريبا ما أعلن أخيرا عن نية الصين تطوير برنامجها المستقبلي لغزو الفضاء, وبدء العمل لبناء أول محطة فضائية صينية, للالتحاق بسفن الفضاء الصينية الموجودة بالفعل الآن تحت اسم شنتشو. غير أن معجزة المعجزات في هذا كله هو الإنسان الصيني نفسه, صانع كل هذا الإنجاز والتفوق! وربما كان ذلك أكثر ما بهرني شخصيا. فنحن إزاء مواطن يتمتع بصحة جيدة, وتعليم جيد, وسلوك راق, فضلا عن كفاءة وانضباط في عمله, تلاحظه بدءا من موظفة الجوازات, أول من تقابلك عند وصول الصين, وحتي أستاذ العلوم السياسية الشاب الذي يتقن الإنجليزية والعربية بطلاقة, ويشارك في الندوة العلمية, ولا يتواني في الوقت نفسه- عن أداء أي مهمة تنظيمية تقتضيها ضرورات أو طوارئ العمل. اللقطة الثانية تتعلق بإحدي نواحي العلاقات التجارية بين مصر والصين, والتي بدت لي من حقيقة أن الطيران بين القاهرة (وربما الإسكندرية) وبين مدن الصين الكبري (بكين, شنغهاي, كانتون إلخ) دائما مزدحم من الجانب المصري- بنوعية محددة من المسافرين, أي: عشرات ومئات التجار, سواء من القاهرة أو مدن مصر كلها, الذين تعلموا وتعودوا علي السفر إلي الصين, وليس مطلوبا منهم إلا أن يكونوا جاهزين أولا بنقودهم ودولاراتهم. ثانيا, أن يعرفوا بالضبط ماذا يريدون شراءه أو تصنيعه. وبمجرد نزولهم للمطار في الصين, فسوف يجدون عشرات المكاتب الجاهزة لاستقبالهم بموظفين يتقنون العامية المصرية, لينطلقوا إلي مراكز التصنيع والبيع التي تعودوا عليها, وغالبا ما يقلهم طيران داخلي للوصول إليها. لقد أصبح الذهاب إلي الصين لتلك النوعية الجديدة من رجال الأعمال!- أبسط من الذهاب إلي المنوفية أو أسيوط! ولقد شاهدت العديدين منهم علي الطائرة ذاهبين إلي الصين, ومرتدين الشباشب! وملابس تكاد تكون رثة! إنهم نوعية جديدة وخاصة من (رجال الأعمال!) الذين يختلفون بالقطع عن رجال الأعمال الذين يتعاملون مع المؤسسات والشركات الأمريكية والأوروبية! ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن رجال الأعمال الجدد ينزحون من الصين كل شيء, بدءا من أعواد الثقاب, والأمشاط, والأحذية, والملابس.. وحتي السيارات وأجهزة المعامل! ويغرقون السوق المصرية بمئات الآلاف من البضائع الصينية, التي تغطي كل شيء بمعني الكلمة بكميات وأسعار تجعل من العبث والمستحيل علي أي مصري- في هذا الإطار- أن يفكر جديا في تصنيع أي شيء. أقول: أي شيء! مما يخلق في الحقيقة ظروفا بالغة الصعوبة بل وربما الاستحالة- لأي تصنيع حقيقي علي أسس اقتصادية مجزية ومربحة. ذلك واقع يستدعي مراجعة جادة تتجاوز بكثير حالة الغياب التي تعانيها الآن الدولة المصرية, ويئن تحت وطأتها الاقتصاد المصري. أما اللقطة الثالثة, فتتعلق بتجربة شخصية لي, أحب أيضا أن أشرك القارئ في انطباعاتي بشأنها, وهي تجربة علاج في الصين. فبعد وصولنا بأربع وعشرين ساعة, شعرت بآلام حادة أسفل البطن علي نحو متواصل, لم يسبق لي أن شعرت بها بتلك الحدة علي الإطلاق! وتصورت في البداية أنها آلام في المعدة بسبب تغيير الطعام, ولكن ظهر أنها آلام أسفل البطن, نتيجة وجود حصوة في الحالب أو المثانة. وبعد ليلة ليلاء لم أذق النوم إلا في نهايتها بسبب قوة الألم- اصطحبني أستاذ صيني شاب في العلاقات الدولية (كان مشاركا معنا في الندوة) إلي أقرب مستشفي عام. وعلمت أنه من غير المتاح طبيب خاص يأتي للفحص, ولا عيادة خاصة للذهاب إليها. هناك فقط ببساطة- أقرب مستشفي عام للفندق الذي أقيم فيه. وبالفعل, ذهبت برفقته, ومعنا السفير محمود علام سفير مصر السابق بالصين وعضو الوفد- إلي المستشفي لنقف في طابور قصير وسط المواطنين, وقطعنا تذكرة للعلاج, ودخلنا بموجبها إلي الطبيبة التي استقبلتنا في حجرة بسيطة, ولكنها مجهزة جيدا. وبعد فحص سريع بالموجات فوق الصوتية, قالت لي إن هناك حصوة بالمثانة هي التي تسبب هذا الألم, وحولتني إلي الطبيب المختص, فذهبت أيضا وسط طابور قصير من المواطنين العاديين- إلي الطبيب الذي سألني بشكل تفصيلي حول تاريخي المرضي وما أشعر به, (ولاحظت إتقانه الكامل للإنجليزية), وقام بكتابة الأدوية المطلوبة, ثم أيضا حولني لغرفة تخفيف الآلام, حيث خصص لي سريرا يتم عليه حقني بمحلول يتضمن نوعا من الأدوية القاتلة للألم. لمدة ساعتين قضاها معي السفير محمود علام, تعافيت علي أثرها بشكل ملحوظ. إن تلك التجربة (المؤلمة) ساعدتني علي أن أتعرف أيضا علي جانب مهم في الحياة في الصين, ربما لم يخطر علي بالي الاهتمام به, وهو: الرعاية الصحية. وهي بلا شك تجربة تضيف أبعادا إيجابية لواقع الصين اليوم, حيث تبدو الصورة واضحة, ليس من الصعب أبدا تحديد ملامحها, وهي: الكفاءة, والانضباط, والشعور بالمسئولية. إنها كلها مقومات لا مفر منها لأي شعب ولأي أمة تريد الانطلاق. وعلي الأغلب, فإن عينة المواطنين الصينيين الذين تعاملت معهم تؤكد توافر تلك المقومات بالفعل في الصين اليوم. لذلك, لا غرابة في أن تنطلق الصين بسرعة إلي مقدمة العالم, أيا كانت التحفظات, أو نقاط الضعف التي ترتبط بأي تجربة إنسانية. المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب