شمسها كانت بعيدة, حسب التعبير الشعري الذي استهل به الشاعر محمود درويش قصيدته ترحيبا بانقلاب 69 الذي قاده القذافي, إلا أن شمسها البعيدة التي ظنها درويش قد اشرقت ظلت بعيدة, بل ازدادت مع تقادم سنوات الانقلاب بعدا وغيابا, وبدت كأن عقيد الشر والجريمة قد احكم وثاقها واحاط جسمها بالسلاسل والاغلال إلي حد يصعب معه فكاكها من أسره, وبلغ اليأس أوجه في قلوب أهل البلاد جميعا, بما في ذلك معارضون قضوا عقودا في المنفي والاغتراب, وما أن سمعوا بعض الكلام المعسول يصدر عن ابن الطاغية, حتي هرعوا اليه يحاولون ان يجدوا ثغرة ينفذ من خلالها شيء من المعقولية والاتزان إلي نظام الجنون والاجرام الذي يقوده القذافي, نعم فهم يعرفون ان الولد يحمل سر ابيه وربما يكون صورة منه في بعض جوانبه, ولكنه جيل جديد ولد بأفكار غير تلك التي ولد بها والده, وتربي في ظروف تتيح له أن يعرف أشياء غير البؤس الذي استحكمت حلقاته في عقل والده, واحاطت بمولده ونشأته معطيات غير تلك التي احاطت بوالده, فلعله يكون شيئا مختلفا عنه, علي الأقل في مجال الحكم والادارة, ويمنح نظام والده لمسة انسانية كانت مفقودة فيه, لكن كثيرين ممن عقدوا الأمل في الخلاص عن طريق الابن صاروا يقتنعون انه مجرد سراب, وان الاب لا يفعل أكثر من وضع مساحيق تجميل علي غضون وجه النظام, وانه لن يستطيع حتي لو ملك هذا الفكر الذي يبشر به, ويكثر الكلام عنه, والذي يشي ببعض الرؤي العصرية, فانه لن يكون قادرا علي الوفاء بوعده في ظل وجود الاب وقبضته القوية علي الاشياء, فبدأوا يتراجعون, وبعض من تركوا مهاجرهم بأمل الاقامة والبقاء في ليبيا, والانخراط في مشاريع الغد الاعلامية والاقتصادية والادارية التي اقامها, بدأوا يعودون إلي مهاجرهم. ثم بدأ فجر الربيع العربي يبشر بالبزوغ, وانطلقت أولي شرارات الثورة من تونس, ثم ما لبثت تلك الشرارة أن تحولت إلي حريق يأكل هياكل النظام القمعي الفاسد, ويجهز عليه, وتحقق في تونس أول انجازات ثورة الربيع, ووصلت إلي نتائجها المذهلة وخواتيمها السعيدة بهروب زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية وزوجته ليلي بن علي قائدة مافيا الفساد في تونس ومع ذلك, ومع كل ما كانت تعنيه تونس للشعوب المقهورة من امكانيات القوة التي يملكها الشعب وما يستطيع انجازه في مواجهة الطغاة, فان احدا لم يستطع أن يفكر, أو يجرؤ علي التفكير ان ما تحقق في تونس يمكن تكراره علي تخومها في ليبيا, ليس لنقص في شجاعة الشعب الليبي, ولا لشك في حقيقة انه اكثر نقمة لنظامه, وأكثر كراهية لرئيسه, من نقمة الشعب في تونس علي الرئيس والنظام في بلاده, لأن حجم القمع وحجم الحرمان وحجم الاجرام الذي ارتكبه النظام الليبي والرئيس الليبي في حق الشعب, يعادل اضعاف المرات ما عرفه الشعب التونسي من ظلم وحرمان واجرام علي يد رئيسه. ثم لم يكن غريبا أن ينتقل مشعل الثورة من ايدي ثوار تونس بعد أن اكملوا مهمتهم, إلي ثوار مصر, ليبدأوا مسيرة الثورة ضد الطاغية المصري, ومع ذلك ظل المشهد في ليبيا غامضا, مفعما بحذر يشوبه التوتر كما يقولون في التعابير السياسية, وخرج الطاغية الليبي يلوم الشعب التونسي ويلوم الشعب المصري لما قاما به من ثورة ضد صديقيه الرئيسين في البلدين, ضاربا المثل بالشعب الليبي, وامتثاله لإرادة رئيسه والتزامه بالهدوء والامان والسلام, وكأنه كان ضامنا ان ثورة الربيع العربي لا تعنيه ولن يهطل وابلها فوق ارضه ولن تدمر عواصفها أبواب قصره. انتهي عهد القذافي, إلي غير رجعة, وهو الآن واحد من مطاريد الصحراء, يتخفي بين كهوفها وشعابها واحقافها, وهناك وحدات من الجيش الليبي تجوب البراري الشاسعة لتنفيذ أمر القبض عليه, وتنتظره شرطة الانتربول علي حدود البلاد المجاورة, اذا تسلل إليها, لتنفيذ امر القبض الذي اصدرته محكمة الجنايات الدولية, باعتباره مجرما دوليا, واشرق وجه ليبيا الجديدة, وشمسها البعيدة التي انشد لها الشاعر العربي الراحل محمود درويش منذ ما قبل اربعة عقود, متمنيا دنوها, اشرقت هي الأخري من جديد. نعم انتهي ما يسميه الرسول الكريم الجهاد الأصغر, وبدأ الجهاد الأكبر, وهو اعادة تأسيس ليبيا علي أسس جديدة كريمة لاغبن فيها ولا إقصاء ولا استئثار بخيراتها أو احتكار لها من قبل فئة دون أخري, ولا وجود لأحد فوق المحاسبة وفوق القانون كما كان في عهد الطاغية, ولذلك فإن الليبيين لا يريدون استبدال حاكم مستبد بآخر اكثر استبدادا, فردا أو عصبة أو حزبا أو طبقة, ليبيا لكل الليبيين, وثورة 17 فبراير هي ثورة الشعب بأكمله, وما جلبته من حرية, وما جلبته من كرامة, وما جلبته من عدل, وما جلبته من خير, وما جاءت به من نور طرد ظلمات الطغيان, وهو من حق كل الليبيين, مهما كانت درجة بعدهم أو قربهم من النظام السابق, لأن الشعب كله كان اشبه بالرقيق تحت حكم الطاغية, كلهم كانوا عبيدا, ولا اقصاء ولا تهميش ولا ابعاد لأي أحد, ومن كان قد تورط في ارتكاب الجرائم ضد الشعب تحت مظلة النظام القديم, قتلا أو نهبا وسرقة, فان القضاء هو الفيصل, وما عدا ذلك فالوطن يسع الجميع ويحتضن الجميع ويحتاج لسواعد الجميع كي تشارك في البناء والتعمير بعد عقود من الهدم والتخريب. المزيد من مقالات د.أحمد ابراهيم الفقيه