حين نقول مصر القوية فنحن نقصد القوة في الخارج والداخل علما بأن القوة وحدها وعلي أهميتها لا تكفي... فالصوت في الغناء لا تكفيه القوة ولكن لابد من القوة والجمال... والقوة هي التحرر الوطني والسيادة الوطنية والعزة القومية ونفي التبعية... والجمال هو عزة الإنسان المصري في دولته القوية بالعدالة والمساواة... والقوة هنا تعني المنهجية والتفكير العقلي المبرمج وفقا للمعايير والأهداف وحسابا للإمكانيات والعاطفة هي الجمال والإعجاب بدون مرجعية للأسباب, ومن هنا نطرح زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا إلي القاهرة... فقد جاء بالمنهجية في حين استقبلته الجماهير والمحللون والمثقفون بالعاطفة, وبقدر المسافة بين المنهجية والعاطفة كان البعد في التفكير والفهم أيضا... كان الرجل يتحدث بما يريده... وكان من يسمعونه بقدر ما يتخيلون... ولذلك استطاع أن يحول المسافة عن بعد إلي مساحة يتحرك عليها في بحر السياسة الدولية أو الأوروبية... والغربية بدقة أكثر... ثم طار بعدها إلي بلاد الربيع العربي في ليبيا وتونس بعد الاستئذان والدخول من باب الشرق الأوسط في القاهرة... وصارت المساحة بالقدر الكافي بعد تحويلها من مسافة اقتراب إلي مساحة للحركة ثم تحويلها إلي حجم بأبعاده الثلاثة ليزيد من الثقل التركي في ميزان الإستراتيجية الدولية... والحقيقة أنه قد صاحب الزيارة سوء فهم وخطأ في التوقيت وتبعات ومكاسب أيضا فقد جاء الخطأ في التوقيت في إحداثيات نقطة البداية وفي إرجاع العلاقات التركية المصرية إلي العصر العثماني وهو خطأ فادح لكونه نقطة البداية... وبالتالي ستكون النهاية خطأ حيث إن عصر محمد علي وأحفاده يمثل الفاصل بين العصر العثماني والجمهورية التركية (أعلنت عام1923) وانحاز هذا العصر نحو الشخصية المصرية إثباتا لذاتيتها وقوتها أيضا... وتحول العصر العثماني إلي جزء من التاريخ المصري وجاءت ثورة يوليو لتنهي عصر محمد علي, والعثماني أيضا, وبشكل مكثف لتتجه مصر نحو القومية العربية... ومن هنا وجب أن نحدد نقطة البداية في العلاقات بين الجمهورية التركية والجمهورية المصرية ليكون القياس والتفاعل صحيحا... ووجب الفصل في تعامل العصر الحديث بين الإمبراطورية العثمانية بما لها وعليها والجمهورية التركية الأتاتوركية وبين مصر الولاية العثمانية ومصر الجمهورية والثورة فليس لكل منهما امتداد أو تبعية في العلاقات وسمة العصر الحديث... حلقات الأمن القومي التركي: عندما بدأت تركيا التطلع نحو المكانة الدولية كانت هناك خمس دوائر تتحكم في رؤيتها نحو المستقبل... الدائرة الأولي الولاياتالمتحدة وهي الدائرة الأساسية... والثانية هي الاتحاد الأوروبي, وعندما بدت بوادر المعوقات في هذه الدائرة (وخاصة من ألمانيا وفرنسا) لم تيأس, ظلت تترقب أحداثا مواتية ومزيدا من الثقل في الدوائر التالية لتضغط وتؤثر علي هذه الدائرة الهامة واتجهت نحو الدائرة الثالثة في القوقاز... ولها فيها الكثير من الموروث الثقافي وقدمت ما يمكن أن يزيل العقبات بتقديم حزمة قوية من المصالح والحوافز لأرمينيا من خلال البروتوكول الذي وقعته معها بوساطة سويسرية وباركته أمريكا وأوروبا... ولكن لم تستطع تجاوز تلك المعوقات والتي يمكن أن تؤثر ليس بالمكانة فقط ولكن بتوابع اقتصادية ليست بالهينة واتجهت نحو الدائرة الرابعة وهي إسرائيل ولها فيها سبق الاعتراف المبكر (عام1949) والتعاون الفني والعسكري والاقتصادي ونقل تكنولوجيا هامة صناعية وعسكرية ولكن في تركيا ديمقراطية تؤثر في الرأي العام ولها قوتها وتستطيع أن تفصل بين مصالح الدولة وأصحاب القرار وبين رأي الشعب والجماهير بعيدا عن نظرية الكبت والقمع... وكانت السلطة في تركيا تستجيب في النهاية للرغبات الشعبية (وإن كانت تعود بعد ذلك وفقا للمصالح التركية الخاصة وتحقيق مصلحتها خلف الأبواب المغلقة) وظهر ذلك في رحلة ما بعد الاعتراف بإسرائيل في إدانة العدوان الإسرائيلي علي مصر في عام 1956 استجابة لنداء ونبض الجماهير ومصلحتها مع أمريكا أيضا... وبعد أحداث نكسة 67 وإدانتها للموقف الإسرائيلي وسحب السفير وتخفيض العلاقات الدبلوماسية إلي حدها الأدني.. ثم سقطت في هوة الهبوط بعد العدوان علي غزة واستجابة لنداء جماهيري أيضا فصل بين السلطة والإرادة الشعبية... وبعد انتهاء الأزمة عادت العلاقات بالتالي إلي طبيعتها, ولكن في المرة التالية لم يكن التأثير السلبي استجابة لنداء شعبي في الفصل والرؤية, ولكن تركيا كانت تبحث عن الاتجاه نحو الحلقة الخامسة والتي تأخرت فيها باستبدال مؤقت مع الدائرة الرابعة... وجاءت بالمفتاح السليم والمنطقي للشرق الأوسط والذي كانت قد ألقته من زمن بعيد وطواعية وهو' فلسطين'... وكانت تركيا ترقب تأثير محاولة الدخول بذات المفتاح ونحو نفس الباب (مصر) والذي حاولته القيادة المنافسة التقليدية' إيران' في الشرق الأوسط والتي حاولت من فترة وجيزة النداء بالحق الفلسطيني وأحقية الدولة الفلسطينية وصعدت ذلك بالنداء نحو محو إسرائيلي من الوجود كمرض سرطاني يجب استئصاله من الشرق الأوسط وطرقت علي الباب المصري وهو اختيار صحيح أيضا وبنداء وغطاء اسلامي أيضا بأن مصر قلب العرب والشرق الأوسط وأن أهلها سنة المذهب شيعة الهوي نحو أهل البيت' هكذا تري إيران مصر'... ولكن النظام السابق في مصر كان قد أوصد الباب أمام أية تطلعات نحو المكانة في الشرق الأوسط ولم يلب النداء, وكانت الجماهير منكبة علي أحداث جسام ومتربصة بالنظام نحو رفض التوريث ومقاومة الفساد, وتوقف الجانب الإيراني عن الطرق مؤقتا أيضا..., وجاء الجانب التركي ليطرق الباب بنفس المفتاح السحري للشرق الأوسط (فلسطين) ولكن من بعيد وبترقب في أحداث مؤتمر' دافوس' للسلام ونال ما يتمني برضاء شعبي جماهيري في الشرق الأوسط وبالقدر المطلوب منه كمرحلة انتقالية... ولكن النجاح أغري القيادة التركية بتقليل المسافة بالاقتراب والعمق في دعم الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة بسفن سلام تحمل المساعدات الإنسانية وبضجة إعلامية غير مسبوقة وهي تعلم من خبرتها الدولية ومعلوماتها المؤكدة بمخاطر ما يمكن أن يحدث ولكنها كانت مغامرة محسوبة المخاطر بكل تبعاتها, حيث عارضت إسرائيل الدعم التركي كعادتها بعنف وغطرسة هو ما توقعته تركيا تماما ليكون التصعيد في مستوي ومقابل أفعال إسرائيل... وكان من نتيجة ذلك مقتل تسعة من أفراد الشعب التركي علي السفينة( مرمرة) وتعالت الاحتجاجات وبدا التصرف التركي بحذر لتحقيق الهدف واستمر ذلك لأكثر من عام حتي حان موعد بدء الطرق علي باب الشرق الأوسط من جديد ومع الأحداث الجديدة لمصر بعد ثورة25 يناير وبدأ التصعيد وتجميد العلاقات مع إسرائيل والتلويح بالمكانة التركية وما يمكن أن تفعله فألهبت المشاعر مع كل خطوة نحو التصعيد وجدت الترحاب والهتاف بأكثر مما تريد, وجاءت تركيا إلي مصر بغطاء اعلامي أعلي نحو إمكانيات تعاون اقتصادي ثم اتفاق استراتيجي, وتجنبا لحساسية النداء الاسلامي وما يضر بمصالح تركيا الأوروبية والغربية والأمريكية أيضا حمل أردوغان الأمنيات الطيبة ودفء العلاقة المصرية التركية ووفدا ضخما يضم20 وزيرا و200 من رجال الأعمال الأتراك باتفاقات اقتصادية تفوق مدة الزيارة وحدث خطأ في التفعيل علي أرض الواقع... وهو خطأ وليس سوء فهم, حيث استقبلت التيارات الإسلامية والمثقفون والإعلاميون أو معظمهم الحضور التركي بالمحاور الجديدة ضد إسرائيل ولا شيء غيرها والمحللون السياسيون بالآمال في تعاون اقتصادي مبهر والتيارات الإسلامية بنداء الخلافة الممتع؟!! وباختصار كان الفعل المصري بنداء العاطفة.. كان الفعل التركي بنداء المكانة والمنهجية في دوائر الأمن القومي التركي في رحلة البحث عن الذات؟!! تركيا تتحرك بمنهجية والتيارات المصرية تحركها العاطفة... مما جعل رئيس الوزراء التركي ينادي (تركيا ومصر أيد واحدة) معبرا عما يريد وتقابله الهتافات علي جانب آخر بالخلافة... هنا جاء تدخل المجلس العسكري المصري ليضع الأمور في نصابها الصحيح وبالميزان المطلوب وهو أن التعاون التركي المصري أساسا في الإطار الاقتصادي بالمرتبة الأولي ثم بعده التفاهمات السياسية بما يخدم البلدين, وطار الوفد التركي نحو بلدان الربيع العربي في ليبيا وتونس لتركيز الإنجاز وتوسيع الأفق نحو المكانة وزيادة الوزن والثقل ثم ذهب الوفد إلي أمريكا مشاركا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وقابل أردوغان باراك أوباما والمسئولين الأمريكيين علي ضوء قيمة ونتائج الوزن الجديد لتركيا الجديدة في منحني جديد ربما يؤثر علي دائرة الاتحاد الأوروبي ويساعد نحو الصعود التركي كنجم ساطع جديد بعد ارتفاع المرتبة التركية في الترتيب الاقتصادي الي المستوي السابع عشر وتتوقع بعض المنظمات الدولية وصولها الي المستوي الثاني عشر؟!! ولكن هل يبقي المنافس الايراني مراقبا ويترك الأمور تسير في هذا الاتجاه وتحوله أحداث الشرق الأوسط وربيعه العربي إلي متابع في انتظار المستقبل؟! الإجابة بالقطع هي لا.. ويبقي السؤال هل ستطغي دائرة من دوائر تركيا الخمس علي أخري أم ستحاول القيادة التركية التوفيق والربط لتكون مساعدة لها في التسلق نحو القمة أو قريبا منها؟ والسؤال الأخطر هو: هل ندرك نحن كيف نتعامل مع الآخر بالمنهجية قبل العاطفة خاصة عندما يتعلق الأمر بمصلحة الوطن العليا؟