نحن لن نستطيع أن نخطو خطوة إلي الأمام إلا إذا ألقينا بين الحين والآخر نظرة وراءنا. والبشر قد يتحركون حيث يقفون دون أن يتقدموا. وقد يصابون بالخوف مما يجهلون في الحاضر والمستقبل فيتراجعون ظانين أنهم سيجدون لدي أسلافهم الغابرين الصدر الحنون والملجأ الأمين وهم في الحالين, عجزهم عن التقدم, ورجوعهم القهقري, مهددون بالموت الذي يختفون به من الوجود أو ينسحبون به من الحياة الفاعلة ويعجزون عن المشاركة الإيجابية في الحضارة البشرية. ونحن نعرف أن الذي لايتقدم يتخلف, وأن الذي لايتجدد يشيخ ويموت. فإذا أردنا أن نواصل حياتنا في هذا العالم فلابد أن نتقدم ولن نستطيع أن نتقدم إلا إذا عرفنا غايتنا التي نسعي لتحقيقها, ورأينا الطريق التي توصلنا إليها, ولكي نعرف الغاية ونري الطريق نحتاج كما قلت لأن نلقي بين الحين والآخر نظرة إلي الوراء نعرف بها ماسبق أن حققناه واختبرناه حتي لانكرر عملا قمنا به ولم نعد نحتاج لتكراره, وحتي نتجنب الوقوع مرة أخري في خطأ وقعنا فيه من قبل. فالمؤمن, والعاقل عامة, لايلدغ من جحر مرتين! نحن باختصار نحتاج لأن نتعلم من ماضينا, أي نحتاج لأن نلقي بين الحين والحين نظرة علي تاريخنا. وهذا ما يفعله البشر الذين اجتهدوا في تسجيل أعمالهم, وكتابة تاريخهم, والاحتفال بانتصاراتهم, والوقوف علي الأسباب التي دفعت بهم إلي الهزيمة والفشل. ولقد كنا نحن المصريين أول أمة عرفت الكتابة وصورت الأحداث والوقائع, واستفادت من خبرة الماضي في التقدم نحو المستقبل. لكن الأقدار وهي مفارقة عجيبة جازتنا علي هذا الإنجاز العظيم شر الجزاء, حين سلطت علينا أمم الأرض خمسة وعشرين قرنا لم تقم لنا فيها دولة, ولم ترتفع راية, ولم تزدهر ثقافة, فقد خص الغزاة أنفسهم بالسلطان, وجعلونا رقيق أرض لانقرأ ولا نكتب, ولانفكر ولانعبر, ولانعرف تاريخنا الذي أخرجونا منه قسرا وأدخلونا في تواريخهم التي صرنا فيها غرباء حتي عن أنفسنا, نكره أصولنا, ونتبرأ من حضارتنا, ولانعرف من ماضينا إلا ماتسمح به وتذيعه السلطة الحاكمة التي تبدأ عهدها حتي بعد أن أصبحت مصرية بمحو أسماء الذين سبقوها وتشويه صورهم وأعمالهم, وهي بهذا لاتعتدي علي الحكام السابقين وحدهم وإنما تعتدي علينا أولا وتنزع منا ماضينا حتي لانتذكره ولانتعلم منه. وقد أشرت في مقالتي السابقة لمظاهرة عابدين أو حركة عرابي التي مرت بنا في التاسع من هذا الشهر ذكراها الثلاثون بعد المائة, فلم نتذكرها, ولم نستحضر وقائعها, ولم نتأمل أسبابها ونتائجها, ولم نقس المسافة التي قطعناها خلال الأعوام المائة والثلاثين الماضية, ولم نستخلص منها درسا ولم نستفد عبرة. حين نقارن مثلا بين حركة ضباط سبتمبر 1881 وحركة ضباط يوليو 1952 ماذا نجد؟ نجد جوانب مشتركة بالطبع, ونجد أيضا جوانب تختلف فيها الحركة الأولي عن الأخري, لقد قام بالحركتين ضباط الجيش ضد السلطة التي استبدت بالحكم, وأذلت الشعب, وعرضت البلاد للأخطار, فلم يجد ضباط الجيش مفرا من التصدي لها, ولو تجاوزوا حدود واجبهم, وهو الدفاع عن أرض الوطن, ليقوموا بالواجب الذي لم يستطع أن يقوم به الشعب الأعزل أو زعماؤه السياسيون, وكما نجح ضباط سبتمبر في إرغام الخديو توفيق علي الانصياع لبعض مطالبهم نجح ضباط يوليو في إسقاط النظام الملكي المستبد, وإقامة النظام الجمهوري؟! والاتفاق مع الانجليز علي الجلاء.وكما طمع ضباط سبتمبر في السلطة ورفضوا أن يتخلوا عنها لحكومة مدنية طمع ضباط يوليو في السلطة ورفضوا أن يعودوا لثكناتهم ويسلموا مقاليد الحكم للأحزاب السياسية ولزعماء الشعب. وكما انتهت حركة سبتمبر بهزيمة العرابيين واحتلال البريطانيين لمصر في سبتمبر من العام التالي 1882, انتهت حركة يوليو وإن بقي نظامها بهزيمة يونيو 1967 واحتلال الإسرائيليين لسيناء المصرية وكل فلسطين, وهضبة الجولان السورية. غير أن وجوه الاختلاف بين الحركتين ليست أقل من وجوه الاتفاق. الأسباب التي دفعت العرابيين للقيام بحركتهم تختلف كثيرا عن الأسباب التي دفعت الضباط الأحرار, وإذا كان هناك مايبرر تشبث العرابيين بالسلطة التي استولوا عليها فليس أمامنا مايبرر لضباط يوليو أن يبقوا في السلطة ستة عقود كانت أسوأ مامر علي بلادنا في القرن العشرين. كان عرابي ورفاقه أول جيل يحمل السلاح من أبناء الفلاحين المصريين الذين حرموا قرونا طويلة من الانخراط في سلك الجندية والدفاع عن أرض الوطن الذي لانستطيع أن نكون أحرارا فيه إلا إذا كنا جنودا له. لكن قادة الجيش في ذلك الوقت كانوا أتراكا وشراكسة يعاملون المصريين جنودا وضباطا باعتبارهم عساكر مأمورين لاحق لهم في رتبة عليا أو منصب قيادي. ثم إن عرابي ورفاقه لم يكونوا مجرد ضباط في الجيش, وإنما كانوا من تلك النخبة المصرية المستنيرة التي اتصلت بالمفكرين الأحرار الذين اتصلوا بالحضارة الأوروبية الحديثة وتبنوا مثلها العليا, فدافعوا عن العقل, وتغنوا بالحرية, وبشروا بالدستور من أمثال رفاعة الطهطاوي, وجمال الدين الأفغاني, ومحمد عبده, وأديب اسحق, ويعقوب صنوع, ومن تعاطف معهم وناصرهم من رجال السياسة والإدارة, فمن الطبيعي والحال كذلك أن يقع الصدام بين عرابي ورفاقه المدافعين عن حقوقهم كضباط ومواطنين وبين القادة الأتراك والشراكسة المتشبثين بما كانوا يتمتعون به من سلطات وامتيازات كفلتها لهم النظم الاستبداية الموروثة, وأن يتخذ هذا الصدام بين الطرفين أبعادا سياسية وأن تكون له أصداء في أوساط النخب والجماهير الشعبية شجعت عرابي ورفاقه علي تحريك فرق الجيش والوقوف بها مجتمعة متأهبة في ميدان عابدين حيث كانت تلك المواجهة التاريخية بين عرابي والخديو. قال الخديو لعرابي: ماهي أسباب حضورك بالجيش إلي هنا؟ فأجابه عرابي: جئنا يامولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة. فقال الخديو: وماهي هذه الطلبات؟ فأجاب عرابي: عزل رياض باشا, وتشكيل مجلس النواب, وإبلاغ الجيش إلي العدد المعين في الفرمانات السلطانية. فقال الخديو: كل هذه الطلبات لاحق لكم فيها. وأنا خديو البلد وأعمل زي ما أنا عاوز! فأجابه عرابي: ونحن لسنا عبيدا, ولن نورث بعد اليوم! هكذا أدرك الخديو أن القضية بالنسبة لعرابي قضية حياة أو موت, وأن الجيش معه والأمة كلها, وعلي الخديو إذن أن يذعن لمطالب عرابي ورفاقه الذين كان عليهم أن يعودوا إلي معسكراتهم ويكفوا عن التدخل في نشاط الحكومة, لكنهم خافوا الانتقام بعد أن يتفرق جمعهم فأصروا علي المشاركة في السلطة, وهذا هو الخطأ القاتل الذي أوقع الانقسام بين السياسيين والعسكريين, وفتح المجال للتدخل الأجنبي الذي انتهي باحتلال البريطانيين لمصر. هذا الخطأ القاتل الذي وقع فيه العرابيون معذورين إلي حدما بسبب خوفهم من انتقام الخديو الذي كان لايزال قويا يستمد سلطته الشرعية من السلطان ويعتمد علي مساندة الطبقة الحاكمة وممثلي الدول الأوروبية, وكانت الحركة الوطنية المصرية لاتزال طرية العود قليلة الخبرة هذا الخطأ وقع فيه ضباط يوليو دون عذر, فالحركة الوطنية المصرية في الخمسينيات الأولي من القرن العشرين في قمة نشاطها وحيويتها, واتساع أفقها, ووضوح أهدافها, ووفرة تجاربها, والملك رحل والنظام كله سقط وأعلنت الجمهورية وأصبح من واجب الضباط أن يعودوا إلي ثكناتهم مشكورين متأهبين للدفاع عن تراب الوطن, لكنهم تركوا الوطن وأصروا علي البقاء في السلطة, رغم أنف الحركة الوطنية وزعمائها ومثقفيها الذين غصت بهم السجون والمعتقلات طوال العقود الستة الماضية التي عشناها في ظل الشعارات الخادعة والأغاني المستأجرة, محرومين من الدستور, والحكم النيابي, والصحافة الحرة, فمن الطبيعي أن تتوالي علينا الهزائم, وأن تتبدد ثرواتنا القومية, ويستشري الفساد والخراب.. وقد آن لنا أن نتعلم! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي