كلاعب اكروبات قرر أن يترك فقرته الآمنة بالسيرك ويصعد لأعلي جبل بالمدينة، ليسير علي حبل مشدود بين طرفيه، فإما أن يسقط ويخسر كل شيء وإما أن يعبر فتنتشي روحه ويصفق له الجميع. يخوض طه عبد المنعم مغامرة كبيرة في تجربته القصصية الأولي "3 تمارين كتابة لميلان كونديرا"، الصادرة حديثاً عن دار روافد بالقاهرة، في هذه المجموعة يغادر الكاتب مرفأ الكتابة الآمنة التي يحرص معظم الكتاب في بداية مسيرتهم علي الاتكاء عليها ليخوض غمار الكتابة الخطرة والمقلقة والمخيفة، فيشتبك مع ثورة يناير، هذا الحلم الكبير، والحمل الثقيل في الكتابة، مقرراً ترويضه وتطويعه لتحكيه الكلمات وتكتبه الأقلام. تحتوي المجموعة علي 16 عشر قصة هي: "عني، ثلاثة تمارين كتابة لميلان كونديرا، ألف ليله وليلة، روابط، طائر تبدو عليه ملامح القداسة، لا شيء ولكن ذلك أفضل، مرت سنة، الإذن بالكتابة، الرجل المشهور والرجل العادي، أتعرف ماذا فعلت، علاقة ملتبسة، صباحك عندي أغلي من مال الهندي، أنا مكان، نهاية الأشياء السرية، البطل الوحيد، ضيوف لهم ذاكرة ضعيفة". الثورة والنص المفتوح تسير قصص المجموعة في خطين دراميين متعرجين ومتداخلين أحدهما سيرة البطل والآخر سيرة الثورة، فبناء المجموعة يشير إلي أنها متتالية قصصية تمزج بين السرد الروائي والسرد القصصي، فهي نصوص متصلة ومنفصلة في آن واحد، وتجمعها الذات الساردة، حيث الزمان والمكان والشخوص بتنوعاتهم تتكرر من قصة لأخري، وقد اعتمد الكاتب تقنية النص المفتوح في كثير من النصوص حيث تختفي الحدود بين الأجناس الأدبية المختلفة، فيمزج الكاتب الشعر بالسرد بالسيرة الذاتية، مستخدماً لغة مراوغة وممتعة تتحرك في منطقة حرة بين الواقع والخيال، "الحدود، تلك الأرض التي لا تخص أحداً، أرض الكتابة بعيداً عن البحر وشاطئه، والغيبوبة بسريرها. تستطيع صنع شخصيات تتحرك وتأكل وتشرب، تملأ الحدود بين الواقع والخيال". الثورة والقاريء بحذر شديد وبراعة لغوية وسردية ابتعد الكاتب عن الوقوع في فخ المباشرة والتنميط والزعيق السياسي الذي تسقط فيه معظم الأعمال الأدبية التي تشتبك مع الثورة، مقرراً أن يترك مساحة كبيرة للتأويل وللتساؤل، عن طريق وضع الثورة بصورتها المعتادة في مخيلة القاريء كهامش، وجعل أبطال المجموعة هم المتن الأساسي، مقدماً صورة مغايرة للثورة التي شاهدها الجميع عبر شاشات التلفاز، انها ثورة الشوارع الجانبية وليست الميدان العامة، ثورة المهمشين لا النخبة، ثورة الظلال بكل ما تحمله من تبابين وغموض وتساؤلات. ومن هنا يمكن للقاريء أن يتعامل مع هذه القصص كهواجس لثائر حزين أو كوثائق لثروة لم تحك حكايتها بعد، أو كهواجس ممتزجة بوقائع، وأيا ما تكون طريقة تعاملك مع الأحداث، فقد قرر الكاتب أن يحرر القاريء من كل تلك القيود والأسئلة، دافعاً إياه للتورط معه في الحكاية ولروايتها سوياً بعد تفككيها فيقول في قصة "روابط" ص25 " أحياناً أحب أن أحكي هواجسي كحقيقة. وأعتقدت أني سأحكي لها حادثة طريفة من تلك التي وقعت لنا أيام الثورة في الميدان، في كل مرة أحكي أكتشف معني جديداً وأتذكر تفاصيل وملاحظات تثري الحكاية، وأحس بطعم جديد لها، حببت حكي الحكاوي أكثر من كتابتها، بل كنت أؤجل كتابتها حتي أستطعم تخمرها علي لساني. في كل مرة تتشعب الحكاية من عند موقعي في ميدان التحرير في لجنة شعبية عند شارع محمد محمود يوم موقعة الجمل". الثورة والتدوين تبدأ المجموعة بقصة قصيرة لا تتجاوز الثلاث صفحات يقدم فيها السارد نبذة عن نفسه وأبيه وأمه، "الثالوث" الذي سيشكل مدخلاً أساسياً لقراءة المجموعة، والتعرف علي الخلفية النفسية والاجتماعية للبطل، فهو الابن الذي هاجر أبوه بحثاً عن المال، تاركاً إياه وحيداً مع أمه، هذه السيدة التي ارتبط بها عاطفياً ووجدانياً، لكنها سرعان ما ترحل تاركة اياه لوحده وغربة مفزعة "انفصلت عن أمي. دخلت في غيبوبة، أو من الممكن أن أكون أنا الذي دخل فيها. غيبوبة طويلة. الي الآن لم أعد أعرف متي بدأت. أحدنا تخشب علي سرير بملاءات بيضاء، لا يشعر بالآخر". ومن هنا يهرب البطل من هذه الوحدة القاسية والمخيفة، ليتلمس الدفء في الشوارع والميدان وزجاجات البيرة وأحضان الأصدقاء، لكنه سرعان ما يكتشف وحدته بينهم، فهم جميعاً مثله يعانون بطرق مختلفة من الاغتراب والوحدة والتشظي، هذه الحالة المثلي لتشخيص ثورة 25 يناير، فهي ثورة تشبه صانعيها، بكل ما يحملونه من تباين وتمرد وجنون وتجارب متنوعة، لذلك كانت الثورة هي الفضاء الوحيد القادر علي إيجاد صيغة واحدة تجمعهم، لأنها ببساطة تشبهم في عفويتهم وبزخ مشاعرهم، ثورة متجاوزة فكرة القائد والأيدلوجيا واستراتيجيات هدم الأنظمة، ثورة لا تبحث عن فوز ولا هزيمة ولكنها تبحث عن روح الإنسان، لذلك كل من دخلوا الميدان ظلت أرواحهم معلقة به. وعندما منع المريدون من الوصول للميدان ظلت أرواحهم هائمة تبحث عن مساحة معادلة لبراح الميدان، وفي هذا السياق ينحاز الكاتب للكتابة والتدوين والحكي باعتبارهم المعادل الموضوعي للميدان حيث يمكن أن تمارس مشاعرك وعفويتك وتتجاوز مخاوفك وتتمرد علي القواعد وتتسلق كل الأسوار، فالتدوين والحكي هما الملاذ والميراث الباقي من الثورة، ويظهر هذا الانحياز في العديد من القصص منها قصة "الإذن بالكتابة" ص 54 " قالت لي غريبتي إنه لم يبق لها من الوقت ما يمكن أن تضيعه. كانت تشعر أن عمرها، وحالتها الصحية، وتدهو حالات غيرها ممن شهدوا الثورة في مثل عمرها، تعني جميعاً أن ما بقي في صدور أصحابها مهدد بالاختفاء إلي الأبد. لقد انتظرت لكي تحكي لي، راجية أن أكتب عنها قصتها. فلو لو يتم التعبير عن شعورها الخاص بالحماسة والثورة والتمرد الذين هاجموها في الشيخوخة، وتدوينه فإنه قد يختفي. ولو بقيت قصتها دون أن تحكي، فسوف يختفي العالم الذي عرفته باختفائها، ونضالها ورحلتها سيبقيان بلا قيمة ما لم يذكرهما أحد". الثورة والجنس للثورة أوجه عدة منها الحرية والعدل والأمل وغيرها، ولكن في النهاية تبقي كل هذه الوجوه ما هي إلا ظلال تتواري في حضور الثورة الباهي والطاغي، لكن الجنس يبقي هو الوجه الأقوي للثورة والأكثر صلابة ليصمد ويقف بجوارها ولا يتواري، يؤكد الكاتب هذه الفكرة وهذا الانحياز من خلال الحضور الكبير للجنس والمتكافئ مع حضور الثورة في قصص المجموعة وحياة الأبطال، ففي قصة "البطل الوحيد" ص 90، يظهر الجنس كبطل وحيد تدور حوله الحياة، "يعتقد كثير من الرجال أنهم قادرون علي فعل أي شيء. يظنون أنهم امتلكوا العالم، ينشرون رائحتهم الذكورية علي كل أنثي، ولا تهمهم في شيء فور تلطيخها بروائحهم. ولكني أحب رائحتي، رائحتي الأنثوية التي تغويهم وتضعهم تحت رحمتي. أعرف كيف أستمتع بالجنس، كيف أحصل علي ما أريد منهم. أسعي لنفسي كما لم أحققها من قبل".