هناك لوحة ما في حياة كثير من الفنانين ليست للبيع، وربما كان الفنان مجدي الكفراوي واحدا منهم حيث يرفض بيع تلك اللوحة التي تصور فتاة تقف في رداء أحمر قاني ومن خلفها يظهر قرص الشمس، وكان الفنان رسم تلك اللوحة منذ عدة سنوات وظل يحتفظ بها لتظهر ضمن اللوحات التي قدمها في معرضه الأخير "حوارات الصمت" الذي استضافته قاعة الباب سليم بمتحف الفن المصري الحديث، حيث يقول الفنان: ربما لا يكون هناك سبب ملموس أو محدد لتسيطر لوحة ما علي وجدانك فتشعر أن هذه اللوحة تحديدا تخصك بقوة ولذا هي ليست للبيع. ولهذا وبدون سبب أيضا وبرغم تعدد اللوحات البديعة التي قدمها الفنان مجدي الكفراوي في هذا المعرض والتي تجاوزت 40 لوحة، إلا أن تلك اللوحة التي يطغي عليها اللون الأزرق وتصور امرأة ريفية تحمل في نظراتها الشموخ والإباء والعزة هي كذلك قد أوقعت بي وأسرتني .. وربما أشارك الفنان المبدع عصمت داوستاشي إعجابه بها ، فإذا بي أقرأ في كلماته إعجاب مشترك حيث يقول: طالما أعجبتني لوحات الفنان الشاب مجدي الكفراوي التي ينشرها علي الفيس بوك، وأبدي إعجابي بها وخاصة لوحته الزرقاء التي يتوسطها سيدة مصرية بملابس الريف المصري، والذي يظهر خلفها ..وكأنها في طقوس جنائزية تودع الحبيب .. هذا الشجن المصري الحزين يغلف معظم لوحاته. والمرأة التي تظهر بقوة في أعمال الكفراوي هي الرمز والفكرة ربما هي مصر ذاتها، وربما كما حدث في تلك اللوحة الزرقاء هي أمه التي يكن لها كل المودة والتقدير، فقد قامت والدته بتربية ستة من الأبناء بعد وفاة والده وتحملت معاناة ومشقة في سبيل أولئك الأبناء، لكن سبب تعلق مجدي الكفراوي بالمرأة في أعماله يرجع أيضا لأن وجه المرأة بصفة عامة وعاء سلسل.. ربما كما يقول الفنان هو الأمثل لتحميل المشاعر الإنسانية بما في ذلك الحزن والقلق والانتظار والخوف أما الرجل فلا يحتمل وجه سوي الصرامة. والمرأة التي تراها في معرض الكفراوي كما يقول الناقد د.ياسر منجي هي فلاحة حينا، ونوبية آنا، أو شرقية تراوح بين الالتحاف بالوشي العربي وبين الاغتسال بومضات سحر الشرق القديم . ثم إذا بها تجلت عصرية من بنات اللحظة الراهنة. تلك هي عروس إلهام "مجدي الكفراوي"، وفاتنته الجمالية، وأنثاه الغاوية، التي لا تبرح تستقطر من أعماق وجدانه عصارة روحه وذوب بصيرته البصرية.. هي حواؤه التي لا تمل من الهمس في أعطاف حسه، محرضة إياه علي القطف من شجرة الرؤية، وعلي الأكل من ثمرة الرؤيا. ويلاحظ في أعمال الفنان مجدي الكفراوي كما يقول د. أحمد عبد الغني رئيس قطاع الفنون التشكيلية استخدامه لألوان قوية موظفا انعكاساتها البصرية بوعي سواء من خلال تبايناتها وتوافقاتها أو مدلولاتها الرمزية والتعبيرية ومثيراتها الوجدانية لتتلاءم مع عمق الطرح والتناول. كذلك يلاحظ أن الفنان الكفراوي لا يرتكن إلي تكنيك واحد حيث يتنقل بين مختلف الأساليب الفنية والخامات فتارة يلجأ للتعبيرية وتارة للتأثيرية وتارة للتجريد، وتارة تخرج لوحاته بخامة الزيت علي التوال، وتارة بالإكريلك علي التوال أوالأويل باستيل، أو الزيت علي الخشب، وتارة يمزج بينهم ربما لأنه يرفض أن تقيده خامة واحدة وأسلوب واحد فلا يخرج معرضه كلوحة واحدة مكررة، هو يريد أن يستمتع بكل لوحة علي أنها حالة مستقلة بذاتها وأن يتنقل المتلقي معه بين شحنات فنية مختلفة مكثفة. ورغم بهجة الألوان التي قدمها الفنان كفراوي ،إلا أن اللون الأزرق سيطر أحيانا علي بعض لوحاته فإذا به يخبرني أن ذاك اللون يرتبط بذكرياته عن القرية حيث ولد بقرية صرد بمركز قطور بالغربية ، ولا تزال القرية بالنسبة له هي رمز لكل الأشياء الجميلة ، لكنها أيضا تتعرض للتغريب حتي كادت تختفي تحت وطأة المدنية .. ربما الأزرق هو لون الشجن علي فقدان القرية لملامحها بل ومسخها بين حياة القرية وطغيان المدنية. ويعد معرض حوارات الصمت هو المعرض الفردي الذي يقيمه الفنان منذ خمس سنوات لم يشارك خلالها إلا في معارض جماعية .. وعن اختيار هذا العنوان يقول الفنان في لغة شعرية: في صغري كنت أتبعه في كل مكان، كنت أهواه ولما اشتد عودي احترفته، التقط أصواته، أميز الحاد منها والغليظ، كنت أشعر أنه يخاطبني بشكل خاص ومميز، ويريني خباياه، ويذيقني طعومه المختلفة.. الصمت صديقي الذي أنارت حواراته حياتي، كنت قبله أسبح ولما احترفت سماعه علمني الغوص عميقا، معه اكتشفت أن الضوء أطياف، وأن اللون درجات من النغم وأن المساحة لغة من تفاصيل متجاورة تربطها اللذة. وحين سألته عن ذلك الشجن والحزن الذي يسيطر علي لوحاته أجابني هي بالآحري حالة العمق والتأمل التي ترتبط بالصمت ، فحالات الصمت تكشف عن خبايا نفوسنا البشرية.. كل تلك اللوحات التي قدمها الفنان مجدي الكفراوي في معرضه نتاج كما يقول : حوارات دارت بين نفسي والصمت بين صمتي وصمت العالم .. اختتمت جولتي بالمعرض مرة آخري أمام لوحتي المفضلة وكلمات الفنان تتردد داخلي .. السيدات أمهر من يتحدث صوتا وأقوي من يعبر صمتا .. صارت الوجوه كشاكيل تروي حيوات وتجارب.. كائنات الصمت تسرح في خلفيات كل المشاهد.