ما هي فوائد وعوائد إنشاء بنك الذهب الأفريقي؟.. رئيس أفريكسم بنك يوضح    اختيار الدكتور جودة غانم بالأمانة الفنية للمجلس الوطنى للتعليم والبحث والابتكار    ‌الإمارات تعلن إنهاء وجودها العسكري في اليمن    انطلاق مباراة غزل المحلة وطلائع الجيش في كأس عاصمة مصر    تركيز على الجوانب الخططية في مران الزمالك قبل لقاء الاتحاد    مران الزمالك – الفريق يستأنف التدريبات بقيادة عبد الرؤوف.. وتصعيد عمار ياسر    تفاصيل اجتماع مدير تعليم الجيزة مع مديري عموم الادارات التعليمية    محافظ المنيا يوجّه بتكثيف الحملات الرقابية على الأسواق خلال رأس السنة    كشف ملابسات مشاجرة بالجيزة وضبط طرفيها    صور.. نجوم الفن في تشييع جنازة والدة هاني رمزي    كنوز مدفونة بغرب الدلتا تكشف أسرار الصناعة والحياة اليومية عبر العصور    خالد الجندى: العمر نعمة كبرى لأنها فرصة للتوبة قبل فوات الأوان    وزير الصحة يجري زيارة مفاجئة لمستشفى الواسطى المركزي ويطمئن على المرضى    حبس رمضان صبحي سنة مع الشغل    الإمارات تصدر بيانًا حول الأحداث الجارية في اليمن    أبو الغيط يدعو لوقف التصعيد وتغليب لغة الحوار في اليمن    جوتيريش يدعو لإعادة ترتيب أولويات العالم: السلام أولًا بدل سباق التسلح في 2026    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    العربية للمسرح تكشف عن تفاصيل ملتقى فنون العرائس    أمين البحوث الإسلامية يتفقّد منطقة الوعظ ولجنة الفتوى والمعرض الدائم للكتاب بالمنوفية    خبر في الجول - ناصر ماهر ضمن أولويات بيراميدز لتدعيم صفوفه في يناير    30 ديسمبر 2025.. أسعار الذهب ترتفع 25 جنيها إضافية وعيار 21 يسجل 5945 جنيها    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الرئيس الإيراني يتوعد برد "قاس ومؤسف" على تهديدات ترامب    الأمانة العامة لمجلس النواب تبدأ في استقبال النواب الجدد اعتبارا من 4 يناير    بمناسبة احتفالات رأس السنة.. مد ساعات عمل مترو الخط الثالث وقطار العاصمة    دينامو زغرب يضم عبد الرحمن فيصل بعد فسخ عقده مع باريس سان جيرمان    قادة أوروبيون يبحثون ملف حرب أوكرانيا    بنك نكست يوقّع مذكرة تفاهم مع كلية فرانكفورت للتمويل والإدارة وشركة شيمونيكس لدعم استراتيجيته للتحول المناخي ضمن برنامج التنمية الألماني GREET    مهرجان المنصورة الدولي لسينما الأطفال يكشف عن بوستر دورته الأولى    بدء تسليم كارنيهات العضوية للنواب المعلن فوزهم من الهيئة الوطنية للانتخابات    إصابة 8 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص على طريق القاهرة- أسيوط الصحراوي الغربي بالفيوم    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    وزارة العدل تقرر نقل مقرات 7 لجان لتوفيق المنازعات في 6 محافظات    وزير الثقافة يُطلق «بيت السرد» بالعريش ويدعو لتوثيق بطولات حرب أكتوبر| صور    وزير الداخلية يعقد اجتماعا مع القيادات الأمنية عبر تقنية (الفيديو كونفرانس)    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    محافظ المنوفية يضع حجر الأساس لإنشاء دار المناسبات الجديدة بحي شرق شبين الكوم    مصرع تاجر مخدرات وضبط آخرين في مداهمة بؤرة إجرامية ببني سويف    معبد الكرنك يشهد أولى الجولات الميدانية لملتقى ثقافة وفنون الفتاة والمرأة    تراجع معظم مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات الثلاثاء    فيديو.. متحدث الأوقاف يوضح أهداف برنامج «صحح قراءتك»    محافظة الجيزة تعزز منظومة التعامل مع مياه الأمطار بإنشاء 302 بالوعة    الصحة تنفذ المرحلة الأولى من خطة تدريب مسؤولي الإعلام    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    أوكرانيا: مقتل وإصابة 1220 عسكريا روسيا خلال 24 ساعة    حكام مباريات غداً الأربعاء في كأس عاصمة مصر    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    اليوم.. طقس شديد البرودة ليلا وشبورة كثيفة نهارا والعظمي بالقاهرة 20 درجة    «هتحبس ليه؟ فرحي باظ وبيتي اتخرب».. أول تعليق من كروان مشاكل بعد أنباء القبض عليه    التموين تعلن اعتزامها رفع قيمة الدعم التمويني: 50 جنيه لا تكفي    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تشن غارات شرقي مخيم المغازي وسط قطاع غزة    بيان ناري من جون إدوارد: وعود الإدارة لا تنفذ.. والزمالك سينهار في أيام قليلة إذا لم نجد الحلول    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكّاء القادم
من عوالم الشعر والأسطورة
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 11 - 2014


القاهرة أواخر السبعينيات
بعد انتفاضة 1977، كادت السلطة السياسية تفتك بجميع معارضيها، وكانت عمليات القبض علي السياسيين والمثقفين والعمال والمعارضين عموما، تعمل بضراوة شديدة، وكانت القوانين التي يسنّها رجال الدولة، تأتي علي مقاس حماية هذه الدولة، فمرة نسمع عن قانون اسمه قانون "العيب"، ومرة أخري قانون "حماية الجبهة الداخلية"، وراح السادات يصف هذه الانتفاضة بأنها انتفاضة "الحرامية"، ولم يكن هناك أي تراجع يبدو من ناحية السلطة، ولا من ناحية المعارضين، وكانت وزاراة الداخلية بقياداتها المتعددة، تعمل في الناس قمعا وسجنا وتشريدا، ويكفي أن ضباط مباحث أمن الدولة ساقوا الشاعر الراحل أحمد اسماعيل إلي حفلة تعذيب مهيبة، وأجلسوه ونحن في القرن العشرين علي خازوق خشبي، وللشاعر رسالة تداولها الناس آنذاك قال فيها: "إنني كنت في حريتي أدافع عن امة كاملة، ولكن هنا، وفي هذا السجن لا أستطيع أن أدافع عن مؤخرتي"، وكان عدد المقبوض عليهم في حبسة 1977 وصل إلي 176 شخصا، وفيهم شعراء وساسة ومناضلون وصحفيون، مثل الشعراء محمود الشاذلي وعزت عامر وأحمد فؤاد نجم وصلاح عيسي وأمير سالم وفريد زهران والشيخ إمام وغيرهم، وظلوا محبوسين علي ذمة "القضية 100"، إلي أن جاء القاضي العظيم حكيم منير صليب وحكم بالبراءة لكل من خرجوا وتظاهروا وتمردوا واحتجوا، ولكنه استثني بعض من ضبطوا، وفي حوزتهم منشورات تحض علي إسقاط النظام في ذلك الوقت، منهم رزق بولس وشوقية الكردي وكمال شعيب وغيرهم.
ورغم أن الحكم قد أثلج صدر الكثيرين، إلا أنه زاد من شراسة السلطة، فعرفنا ديمقراطية الفرم، وراح السادات يخبط يمينا ويسارا، وكانت المعارضة في البرلمان تعمل بقوة، وكان الفرسان كثيرين، وعلي رأسهم المهندس محمود القاضي، والمحامي ممتاز نصار، وكان اليسار يعمل في الشارع بكل نشاط، وكانت الأحزاب السّرية تقاتل بضراوة النظام، وتصدر نشراتها الشرسة كذلك.
في ذلك العام1977 اشتعل المثقفون احتجاجا، وكانت منافذ النشر والتعبير قد ضاقت وتقلصت، وما بقي منها لم يستطع استيعاب كمّ الغضب العارم الذي انبثق في الساحة الثقافية، فتطورت ظاهرة النشرات غير الدورية، مثل إضاءة 77وكتابات وإلي الأمام والشرنقة وموقف وغيرها من نشرات أخري، شارك في إصدارها والكتابة فيها، كتّاب ومثقفون ومبدعون من شتي التيارات والأنواع الأدبية.
محمد ناجي الشاعر
وكان هناك جيل السبعينيات الشعري، الذي ملأ الدنيا كتابة وتنظيرات مختلفة، فمنهم من كان يري في ظاهرتي أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وضوحا ومباشرة خارج سياق الفن، واعتبر البعض أنهما لن يستمرا بعد زوال الأحداث التي أنتجتهما، وكان المثقفون لا يخوضون معركة في مواجهة السلطة فقط، بل راحوا يتهمون بعضهم البعض بشتي الاتهامات، وانشق الشاعر رفعت سلام عن إضاءة 77، وأنشأ كراسته "كتابات"بمشاركة آخرين، والذي حدث في تجمع الشعراء، حدث في تجمعات أخري علي مستوي المثقفين، وسادت حالات من الإحباط الشديد، جعلت كثيرين يتركون البلاد لينعموا بجحيم الخارج.
وجاءت قرارات 5 سبتمبر 1981 التي أدت إلي القبض علي أكثر من 1500 شخص يعملون بالسياسة والنشاط العام والصحافة، ومنهم شخصيات كبيرة مثل محمد حسنين هيكل ونوال السعداوي والبابا شنودة وابراهيم شكري وميلاد حنا وغيرهم، هنا اعتقد الناس أن السلطة قد جنت، وقبل أن يستيقظ الناس من دهشتهم، انبثق جنون آخر، وهو اغتيال السادات بين قياداته وعلي الملأ، وبشكل علني، علي أيدي أحد الضباط الشباب، والذي ينتمي إلي أقصي التيارات المتطرفة، وكان السادات قد أطلق لهذه التيارات العنان، وبعد استفحالها راح يحاربها بعد فوات الأوان، وأثبتت هذه التيارات أنها لم تنس فشلها فيماحدث في المنشية من خيبة في اصطياد جمال عبد الناصر في أكتوبر عام 1954، ولكنها نجحت في عام 1981، وللأسف كان هناك من ناصر هذا الاغتيال الجديد، وكتب الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قصيدة مدح في خالد الاسلامبولي، المنفذ الأول لعملية الاغتيال.
في هذا المناخ كان محمد ناجي مازال يكتب الشعر، ولكن بطريقته الخاصة، وكان يعمل صحفيا في وكالة أنباء الشرق الأوسط، وكان أقرب أصدقائه في ذلك الوقت هو الشاعر رفعت سلّام، وكنت أعرف أخبار ناجي من رفعت، الذي كان مهتما به أشد الاهتمام في ذلك الوقت، وكان ناجي قد نشر شعرا قليلا جدا، وقرأت له في مجلة الفكر المعاصر التي كان يصدرها عبد السلام رضوان قصيدة، وأعتقد أنني قرأت له قصيدة في مجلة كان يصدرها أتيليه القاهرة اسمهاأي المجلةالأتيليه.
ولكن محمد ناجي كان عازفا عن نشر ديوان، وكذلك توقف عن كتابة الشعر، أو عن نشره، ولم تبد عليه علامات اللهفة والتكالب بأي شكل من الأشكال، حتي فاجأنا بتحفته الأولي "خافية قمر"عام 1994، وتلاها في العام ذاته بدرته الثانية "لحن الصباح"، ثم تتالت رواياته :مقامات عربية، والعايقة بنت الزين، ورجل أبله وامرأة تافهة، والأفندي، وليلة سفر، ثم بخاتمة رواياته التي نشرها منجمة في جريدة التحرير"قيس ونيللي".
أقول:" فاجأنا" محمد ناجي بكتاباته السردية، ليس لأنه هجر الشعر، و"لجأ"إلي السرد، أو اقتحمه عالم السرد، بل المفاجأة تكمن في هذا النضوج المكثف في الكتابة، وهذا العالم المدهش تماما، والذي يختلف بدرجات كبيرة عن كل مانتعامل معه في "سوق" الرواية، ونقرأه، وأنه لم "ينحرف" نحو ظاهرة شائعة في الكتابة، ولكنه آثر أن يكتب أسطورته بشكل خاص جدا ومتفرد، وهذا مادفع ناقدا كبيرا مثل الدكتور علي الراعي أن يكتب عن تحفته الأولي "خافية قمر" فيقول:"هذه الرواية الفائقة الحسن، قد صنعت من مادة الأحلام ورضعت لبان الخيال، واستوت أمامنا خلقا فنيا جميلا، نسعد به، ونعلي في تقديره من شأن مبدعه محمد ناجي..أستاذ الفن الجميل"، وكذلك ماكتبه فاروق عبد القادر عن الرواية ذاتها:"درّة مخبوءة في أكثر من صدفة"، وبعد هذين الناقدين الكبيرين، احتفل النقاد والمثقفون والكتاب بهذا الكاتب المفاجأة، والصامت كذلك، والذي لا يسعي في الأرض تسويقا وترويجا لكتاباته ولنفسه، مثلما نري يوما بعد يوم، كان محمد ناجي عازفا عن هذه السمات التي أصابت كثيرا من المبدعين، فلا نجده متحدثا عن نفسه إلا قليلا، ولا نراه يرتاد الأماكن إلا نادرا، إنه يشبه في ذلك الأمر العظيم الراحل ابراهيم أصلان، كلاهما كان يكتب مايكتب، ولا ينشغل بمسألة التسويق والندوات وحفلات
التوقيع وكتابات النقاد، لذلك فهما يشغلان احتراما عظيما في ضمير الحياة الثقافية.
خافية قمر
لا يصلح في أي كتابة صحفية عن عالم محمد ناجي الروائي، أن يتناوله الكاتب بشكل مجمل، وذلك سوف يحدث مقاربات مغلوطة في عوالمه الواسعة والمترامية الأطراف والشخصيات والأحداث إن جاز التعبير، رغم تقارب المزاج الفني بين معظم ماكتبه، ولكننا لا نستطيع أن نضع روايته الأولي "خافية قمر"، في مقارنة مع روايته الثانية "لحن الصباح"، وهذا ينطبق علي بقية رواياته الست الأخري، ولكننا نستطيع أن نقف عند كل رواية علي انفراد، وأن أؤثر التوقف عند روايته الأولي، هذه الرواية التي قامت عليها أسطورة محمد ناجي الإبداعية، وعندما أقول "أسطورة"، لا أعني التعظيم أو التفخيم، بل أقصد أن عوالم ناجي اتخذت أشكالا أسطورية، رغم أنها تتقاطع مع الواقع وتتوازي معه في منحنيات كثيرة.
وكما حاول ناجي أن يؤطر شخصياته وأحداثه وعوالمه، فهو كذلك لم يترك عالم الشعر علي وجه الإطلاق، بل إننا نستطيع أن نقتبس قصائد شبه مكتملة، مدسوسة بين منعطفات السرد الحادة واللينة في روايته "خافية قمر"، وكذلك رواياته التالية، وهو لا يدسها في شكلها السردي، بل يضعها بطريقة الشعر، نستطيع أن نقولكذلكأن هذه القصائد تتصل وتنفصل عن النص السردي بكل مرونة، فاقرأوا مثلا هذا المقطع:
(لتكن الأرض سندانك
وليملأ رنين ضرباتك السماوات
ياحداد..ياحداد
ألق حديدك في الأتون
واسقه بنار الغضب
واصنع منجلا لنضعه في يد ادريس
وليسطع النصل كمثل هلال
ياحداد
ياحداد)
هنا نلاحظ أن عوامل الاستقلال متكاملة تماما، لولا وجود "ادريس"، الذي جاء ليثبت تواصل النص الشعري، مع النص السردي، ولكن ماعدا ورود اسم ادريس، سيكون النص مستقلا تماما، ومن الطبيعي أنه سيعطي دلالات منفصلة عن النص الروائي، فضلا عن أن ورود هذا النص الشعري داخل الرواية، يلقي بدلالات تواصلية مع كافة ما أورده الراوي في الرواية ذاتها.
كذلك عندما نقرأ:
(قمر فوق
قمر تحت
فخ منصوب في السماء لعيون النساء
وشرك في باطن الأرض
يصطاد خطي الرجال
حاذر، حاذر أيها القادم
قمر فوق
قمر تحت)
وكما فعل في النص السابق، فأورد اسم ادريس، فعل في هذا النص، فأورد اسم قمر، ومن الممكن أن نقرأ "قمر" باعتباره القمر الطبيعي، وليس "قمر" الشخصية الواردة في الرواية، ولكن الراوي أراد بإبداعيته الخاصة أن يصنع أشكالا من الاتصال والانفصال بين الشعري والسردي في نص واحد.
ورغم أن الحكاية كلها تندرج تحت مسمي الرواية، إلا أنها تنطلق من زوايا الرؤية الشعرية بقوة، فمنذ البداية التي يدخل فيها عبد الحارس أحد البارات، وتدور حوارات بينه وبين رفاق البار المجهولين وبين النادل كذلك، نفهم أن الراوي يدخل بنا في عوالم شبه غرائبية وغير واقعية بالمرة، علي الأقل في هذا الحوار الأوّلي، عندما يسأل عبد الحارس النادل :هل يعرف ادريس البكّاء؟، وعندما يجيبه النادل ب"لا"، يندهش كثيرا، من غبائه هذا، أو من جهله، ولكن هذا الحوار لم يأت ولم ينبثق في ازدحام ما، بل دار بعد أن غادر بعض الجالسين الذين كانوا يحيطون بعبد الحارس، وكان الاستهلال الروائي كذلك مفاجئا، وكأن الراوي يواصل حكاية كانت من قبل فيقول في البدء:(لم انتبه لانصرافهم إلا بعد أن كنت قد أتممت حديثي، لم أستطع أن أخمن متي مضوا بالضبط، لا يهم، لا بد أن أحدهم سمعني حتي قرب النهاية.. لم أعرف أحدا منهم ولكنهم عرفوني بالتأكيد، بادلوني التحية...
سألت الجرسون:
متي انصرفوا؟
من؟
هم
جاء ناس كثيرون وانصرفوا
أقصد الذين جلسوا معي
لم ألاحظ)
وبعد بضعة أسئلة وأجوبة يقول للنادل:
أنا عبد الحارس
عبد..؟
عبد الحارس ..ألا تعرفني؟..لك عذرك، إذا كنت لا تعرفني
ولكنك بالتأكيد تعرف ادريس البكّاء
ادريس البكّاء
ادريس ..ادريس .أين يعمل)
ولكن عبد الحارس يحاول أن يقنعه أن ادريس هذا ملك قديم جدا، وله أساطير وحكايات وقصص عجيبة، وعندما يأتي عبد الحارس في اليوم الثاني، يحاول أن يذكّر الجرسون بنفسه فيسخر منه الجرسون ويقول له : إنه تذكره، فهو ابن ادريس الفسّاء، فيصحح له بأنه ليس بفسّاء، ولكنه بكّاء، ويحكي له عبد الحارس بكل جدية حكاية هذا البكاء، وهنا يتواصل مع الجالسين والرفاق العابرين، ويكتشف أن بينهم من يقول له عن "الزباء"، ويدخلان في حوار عبثي حول إن كانت هذه الزباء، والتي اشتهرت علي أنها ملكة اليمن، امرأة أم رجلا، فعبد الحارس يصر! علي أنها امرأة، ومحاوره يؤكد علي أنه رجل، فمثلما لا نستطيع أن نطلق علي امرأة صفة "البكاء" من الناحية اللغوية، فبالتالي هذا ينطبق علي "صفة "الزباء" المذكرة.
ولكن نكتشف عبر كل التطوحات والهذيانات التي يطلقها عبد الحارس، أنه يعاني من جنون ما، فيعترف بين ثنايا الحوارات، بأن هناك رجالا جاءوا في لحظة ما، هؤلاء الرجال كانوا يرتدون أردية بيضاء، ويقتادونه إلي مكان ما، ولذلك فكل ما جاء من حوارات من الممكن أن يندرج تحت تطوحات أو هذيانات أو اعترافات تنبثق تحت أزمات نفسية عنيفة، يعاني منها عبد الحارس الذي عاش أشكالا كثيرة من الانحرافات.
ويعود عبد الحارس إلي سنوات تكوينه الأولي، أي سنوات الطفولة المبكرة، عندما اقتاده عمه إلي الشيخ شاهين الأعمي، وهو صاحب الكتّاب الذي سوف يعلمه القراءة والكتابة والأدب، وكان أول مالمسه من شيخه الأعمي هو العصا، ويردد الشيخ هذا هذه المقولة المأثورة بين الشيوخ وهي "العصا لمن عصي"، ولم يكن الدرس الأول سوي علقة ساخنة، فكان الدرس الأول هو القمع، قبل العلم، وقبل القراءة وقبل الكتابة وقبل الأدب، وعندما ذهب عبد الحارس الي الشيخ شاهين في الكتّاب، سأله الشيخ شاهين :ماهذه؟ فأجاب عبد الحارس بأنه خيرزانة، فأثني عليه الشيخ، وقال له :لا بد أن تذوقها وتتعرف عليها، وراح يضربه في كل منطقة في جسده، حتي قال له الشيخ:"لن أكف عن ضربك، إلا عندما تصمت أيها الكلب"، وهكذا وهكذا تسير أحداث الرواية.
ولكن هذا الشيخ، والشخصية المحورية في الرواية، يكتشف عبد الحارس بأن له علاقة مع أم اليسر بائعة الترمس، وكان عبد الحارس يذهب مع زملائه ليشاهدوا الشيخ وهو يواقع أم اليسر، ولكن برعي يحاول أن يخترع دسيسة بين الشيخ وأم اليسر، فعندما كانت أم اليسر تذهب إلي الشيخ، تأخذ معها أرنبا مطبوخا، فدس برعي للشيخ بأن أم اليسر يوميا تطلب منه أن يصطاد لها قططا من الشارع، وعندما أبلغ برعي الشيخ بهذه المعلومة، كانت آخر الأمسيات بينهما، وكان تلاميذه جميعا يشاهدون موقف الوداع الدامي بين الشيخ شاهين وأم اليسر بائعة الترمس.
ورغم أن هذه الحكاية تتقاطع مع الواقع بكل صوره، إلا أن البحث الدائم لعبد الحارس عن أشكال متعددة لأساطير شعرية شبه غرائبية، مثل خافية قمر نفسها، التي تختفي في مكان ما من الأرض، ولا يستطيع أن يتواصل معها، تمثل لغزا له، ولحكايته، وعندما يلتقي مع رفيقه ابن الزباء الذي التقي به في مستهل الرواية، ويجلسان معا في أحد البارات، ويظل عبد الحارس وابن الزباء يشربان الويسكي، ويتبادلان الحكايات التي تمزج الشعر بالأسطورة بالواقع، الحكايات التي تجعل من الازمنة مزيجا واحدا من الماضي والحاضر، فالراوي استطاع أن يخلق نوعا من السرد يقدر علي هذا المزج بسهولة، كذلك فالقفز من الواقع العيني، إلي المتخيل السردي، في منتهي المرونة، هذا عدا اللغة الشعرية الفائقة، التي تتشكل من مفردات مختارة بعناية فائقة.
هذا فضلا عن البنية الكلية للرواية، والتي تنبني علي ثلاث مقدمات، وكأنها قصيدة، وليست بنية الفصول المعتادة، وهذه المقدمات مبنية علي أساس موضوعي أو شعري، وليس علي البنية الزمنية المعتادة في الرواية.
لذلك جاءت الرواية مدهشة إلي حد بعيد، وليحتفل بها القرّاء والنقاد والمثقفون عموما، وكذلك البعد الانساني العارم الذي يقف خلف هذه الإبداعات التي تركها لنا محمد ناجي، وتنطق بأجمل المعاني النبيلة، والتي تضيف إلي رصيد الرواية المصرية والعربية بشكل حقيقي، وهذا مارشح هذه الروايات للترجمة إلي لغات عديدة، ويعتبر العمر الفني لمحمد ناجي، وهو عشرون عاما، قصيرا جدا لهذا الإبداع المتميز والاستثنائي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.