محافظ الفيوم يستقبل وزيرة التضامن الاجتماعي لبحث ملفات الحماية الاجتماعية    محافظ سوهاج يتفقد مشروع رصف طريق بناويط - جهينة بطول 9 كيلومترات    ردا على فرانس برس.. سوريا تنفي اعتزامها تسليم مقاتلين من الإيجور إلى الصين    مولاي الحسن يحتضن مباراة الأهلي والجيش الملكي    كاف يعتمد ملعب برج العرب لاستضافة المباريات    رئيس الصرف الصحي بالإسكندرية تعلن الاستعدادات ل 17 نوة.. وخفض نقاط تجمع الأمطار إلى 16 فقط    خبير اقتصادي يكشف أسباب ارتفاع أسعار الذهب وتوقعاتها خلال الفترة المقبلة    البنك المركزى: 30.2 مليار دولار تحويلات المصريين بالخارج خلال 9 أشهر    في الجول يكشف كيف يفكر الأهلي في ملف تجديد اللاعبين الذين ستنتهي عقودهم بنهاية الموسم    التنسيقية : إرادة المصريين خط أحمر .. الرئيس يعزز ثقة الشعب في صناديق الاقتراع    وزير الثقافة ومحافظ بورسعيد يناقشان خطة تطوير عدد من المنشآت الثقافية ودعم الفعاليات بالمحافظة    مقتل 18 شخصا جراء الانهيارات الأرضية في إندونيسيا    حماة الوطن بالإسماعيلية ينظم مؤتمرًا جماهيريًا لدعم مرشحيه في انتخابات النواب    أهالي قرية ببني سويف يطالبون بتعزيز من «الإسكان» قبل غرق منازلهم في الصرف الصحي    حماة الوطن يرحب بتوجيهات الرئيس: الإرادة الشعبية صاحبة القول الفصل في اختيار ممثليها داخل «النواب»    الزمالك يشكر كل من قدم العزاء في رحيل محمد صبري    الكرة النسائية l مدرب نادي مسار: نستهدف التتويج برابطة أبطال إفريقيا للسيدات    بعد الحكم بإعدامها.. ما هو أول رد فعل من رئيسة وزراء بنجلاديش السابقة؟    اعرف عقوبة التلبس بمخدرات للتعاطى.. بعد ضبط شادى ألفونس وبحوزته ماريجوانا    الأرصاد الجوية : تغيرات مفاجئة فى درجات الحرارة والقاهرة تصل ل30 درجة    تعرف على حورات أجراها وزير التعليم مع المعلمين والطلاب بمدارس كفر الشيخ    انسحاب مئات العناصر من قوات الحرس الوطني من شيكاغو وبورتلاند    مجمع البحوث الإسلامية يطلق مسابقة ثقافية لوعاظ الأزهر حول قضايا الأسرة    رئيس دار الأوبرا المصرية يزور الموسيقار عمر خيرت فى المستشفى    هيئة الدواء: توفر علاج قصور عضلة القلب بكميات تكفي احتياجات المرضي    مدبولي: تيسيرات لإجراءات دخول السائحين عبر تطبيق منظومة التأشيرة الإلكترونية    حزب المؤتمر : كلمة الرئيس عن الهيئة الوطنية خطوة حاسمة لترسيخ النزاهة في العملية الانتخابية    أبو الغيط: الحوار العربي- الصيني ضرورة استراتيجية في مواجهة تحولات العالم المتسارعة    موعد التصويت بمحافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025    وزير الخارجية يؤكد لنظيره السوداني رفض مصر الكامل لأي محاولات تستهدف تقسيم البلاد أو الإضرار باستقرارها    الزمالك يوضح حقيقة عروض احتراف البرازيلي بيزيرا    مدير متحف الهانجول الوطني بكوريا الجنوبية يزور مكتبة الإسكندرية    بطولة منة شلبي وإياد نصار.. الحب والحرب مسلسل تدور أحداثه خلال الحرب على غزة في رمضان 2026    جولة مفاجئة لوزيرالتعليم في مدارس كفر الشيخ    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره السوداني    محافظ كفر الشيخ: الكشف على 1626 شخصا خلال قافلة طبية مجانية فى دسوق    مقتل عناصر عصابة شديدة الخطورة وإصابة ضابط بعد تبادل لإطلاق النار    جاتزو بعد السقوط أمام النرويج: انهيار إيطاليا مقلق    صفقة حامد حمدان تحدد مصير سيف فاروق جعفر فى نادى الزمالك    «التضامن» تقر توفيق أوضاع 3 جمعيات في محافظتي القاهرة والمنيا    وزارة العمل: تحرير 437 محضر حد أدنى للأجور    سعر الدينار الكويتى اليوم الإثنين 17 نوفمبر 2025 أمام الجنيه    كوريا الجنوبية تقترح محادثات مع نظيرتها الشمالية لترسيم الحدود    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا .. تفاصيل    رئيس مصلحة الجمارك: منظومة «ACI» تخفض زمن الإفراج الجمركي جوًا وتقلل تكاليف الاستيراد والتصدير    إعادة الحركة المرورية بعد تصادم بين سيارتين على طريق "مصر–إسكندرية الزراعي"    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    توم كروز يتسلم جائزة الأوسكار الفخرية بخطاب مؤثر (فيديو)    وزير الري يتابع تنفيذ مشروع إنشاء قاعدة معرفية للمنشآت الهيدروليكية فى مصر    وزير الصحة يشهد الاجتماع الأول للجنة العليا للمسئولية الطبية وسلامة المريض.. ما نتائجه؟    جامعة الإسكندرية توقع بروتوكول تعاون لتجهيز وحدة رعاية مركزة بمستشفى المواساة الجامعي    لمواجهة الصعوبة في النوم.. الموسيقى المثالية للتغلب على الأرق    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    بعد صلاة الفجر.. كلمات تفتح لك أبواب الرحمة والسكينة    أحمد سعد: الأطباء أوصوا ببقائي 5 أيام في المستشفى.. أنا دكتور نفسي وسأخرج خلال يومين    الفجر 4:52 مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 17نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 17 نوفمبر 2025    السيطرة على حريق نشب في سيارة ملاكي و4 موتوسيكلات بأرض فضاء بالزاوية الحمراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكّاء القادم
من عوالم الشعر والأسطورة
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 11 - 2014


القاهرة أواخر السبعينيات
بعد انتفاضة 1977، كادت السلطة السياسية تفتك بجميع معارضيها، وكانت عمليات القبض علي السياسيين والمثقفين والعمال والمعارضين عموما، تعمل بضراوة شديدة، وكانت القوانين التي يسنّها رجال الدولة، تأتي علي مقاس حماية هذه الدولة، فمرة نسمع عن قانون اسمه قانون "العيب"، ومرة أخري قانون "حماية الجبهة الداخلية"، وراح السادات يصف هذه الانتفاضة بأنها انتفاضة "الحرامية"، ولم يكن هناك أي تراجع يبدو من ناحية السلطة، ولا من ناحية المعارضين، وكانت وزاراة الداخلية بقياداتها المتعددة، تعمل في الناس قمعا وسجنا وتشريدا، ويكفي أن ضباط مباحث أمن الدولة ساقوا الشاعر الراحل أحمد اسماعيل إلي حفلة تعذيب مهيبة، وأجلسوه ونحن في القرن العشرين علي خازوق خشبي، وللشاعر رسالة تداولها الناس آنذاك قال فيها: "إنني كنت في حريتي أدافع عن امة كاملة، ولكن هنا، وفي هذا السجن لا أستطيع أن أدافع عن مؤخرتي"، وكان عدد المقبوض عليهم في حبسة 1977 وصل إلي 176 شخصا، وفيهم شعراء وساسة ومناضلون وصحفيون، مثل الشعراء محمود الشاذلي وعزت عامر وأحمد فؤاد نجم وصلاح عيسي وأمير سالم وفريد زهران والشيخ إمام وغيرهم، وظلوا محبوسين علي ذمة "القضية 100"، إلي أن جاء القاضي العظيم حكيم منير صليب وحكم بالبراءة لكل من خرجوا وتظاهروا وتمردوا واحتجوا، ولكنه استثني بعض من ضبطوا، وفي حوزتهم منشورات تحض علي إسقاط النظام في ذلك الوقت، منهم رزق بولس وشوقية الكردي وكمال شعيب وغيرهم.
ورغم أن الحكم قد أثلج صدر الكثيرين، إلا أنه زاد من شراسة السلطة، فعرفنا ديمقراطية الفرم، وراح السادات يخبط يمينا ويسارا، وكانت المعارضة في البرلمان تعمل بقوة، وكان الفرسان كثيرين، وعلي رأسهم المهندس محمود القاضي، والمحامي ممتاز نصار، وكان اليسار يعمل في الشارع بكل نشاط، وكانت الأحزاب السّرية تقاتل بضراوة النظام، وتصدر نشراتها الشرسة كذلك.
في ذلك العام1977 اشتعل المثقفون احتجاجا، وكانت منافذ النشر والتعبير قد ضاقت وتقلصت، وما بقي منها لم يستطع استيعاب كمّ الغضب العارم الذي انبثق في الساحة الثقافية، فتطورت ظاهرة النشرات غير الدورية، مثل إضاءة 77وكتابات وإلي الأمام والشرنقة وموقف وغيرها من نشرات أخري، شارك في إصدارها والكتابة فيها، كتّاب ومثقفون ومبدعون من شتي التيارات والأنواع الأدبية.
محمد ناجي الشاعر
وكان هناك جيل السبعينيات الشعري، الذي ملأ الدنيا كتابة وتنظيرات مختلفة، فمنهم من كان يري في ظاهرتي أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وضوحا ومباشرة خارج سياق الفن، واعتبر البعض أنهما لن يستمرا بعد زوال الأحداث التي أنتجتهما، وكان المثقفون لا يخوضون معركة في مواجهة السلطة فقط، بل راحوا يتهمون بعضهم البعض بشتي الاتهامات، وانشق الشاعر رفعت سلام عن إضاءة 77، وأنشأ كراسته "كتابات"بمشاركة آخرين، والذي حدث في تجمع الشعراء، حدث في تجمعات أخري علي مستوي المثقفين، وسادت حالات من الإحباط الشديد، جعلت كثيرين يتركون البلاد لينعموا بجحيم الخارج.
وجاءت قرارات 5 سبتمبر 1981 التي أدت إلي القبض علي أكثر من 1500 شخص يعملون بالسياسة والنشاط العام والصحافة، ومنهم شخصيات كبيرة مثل محمد حسنين هيكل ونوال السعداوي والبابا شنودة وابراهيم شكري وميلاد حنا وغيرهم، هنا اعتقد الناس أن السلطة قد جنت، وقبل أن يستيقظ الناس من دهشتهم، انبثق جنون آخر، وهو اغتيال السادات بين قياداته وعلي الملأ، وبشكل علني، علي أيدي أحد الضباط الشباب، والذي ينتمي إلي أقصي التيارات المتطرفة، وكان السادات قد أطلق لهذه التيارات العنان، وبعد استفحالها راح يحاربها بعد فوات الأوان، وأثبتت هذه التيارات أنها لم تنس فشلها فيماحدث في المنشية من خيبة في اصطياد جمال عبد الناصر في أكتوبر عام 1954، ولكنها نجحت في عام 1981، وللأسف كان هناك من ناصر هذا الاغتيال الجديد، وكتب الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قصيدة مدح في خالد الاسلامبولي، المنفذ الأول لعملية الاغتيال.
في هذا المناخ كان محمد ناجي مازال يكتب الشعر، ولكن بطريقته الخاصة، وكان يعمل صحفيا في وكالة أنباء الشرق الأوسط، وكان أقرب أصدقائه في ذلك الوقت هو الشاعر رفعت سلّام، وكنت أعرف أخبار ناجي من رفعت، الذي كان مهتما به أشد الاهتمام في ذلك الوقت، وكان ناجي قد نشر شعرا قليلا جدا، وقرأت له في مجلة الفكر المعاصر التي كان يصدرها عبد السلام رضوان قصيدة، وأعتقد أنني قرأت له قصيدة في مجلة كان يصدرها أتيليه القاهرة اسمهاأي المجلةالأتيليه.
ولكن محمد ناجي كان عازفا عن نشر ديوان، وكذلك توقف عن كتابة الشعر، أو عن نشره، ولم تبد عليه علامات اللهفة والتكالب بأي شكل من الأشكال، حتي فاجأنا بتحفته الأولي "خافية قمر"عام 1994، وتلاها في العام ذاته بدرته الثانية "لحن الصباح"، ثم تتالت رواياته :مقامات عربية، والعايقة بنت الزين، ورجل أبله وامرأة تافهة، والأفندي، وليلة سفر، ثم بخاتمة رواياته التي نشرها منجمة في جريدة التحرير"قيس ونيللي".
أقول:" فاجأنا" محمد ناجي بكتاباته السردية، ليس لأنه هجر الشعر، و"لجأ"إلي السرد، أو اقتحمه عالم السرد، بل المفاجأة تكمن في هذا النضوج المكثف في الكتابة، وهذا العالم المدهش تماما، والذي يختلف بدرجات كبيرة عن كل مانتعامل معه في "سوق" الرواية، ونقرأه، وأنه لم "ينحرف" نحو ظاهرة شائعة في الكتابة، ولكنه آثر أن يكتب أسطورته بشكل خاص جدا ومتفرد، وهذا مادفع ناقدا كبيرا مثل الدكتور علي الراعي أن يكتب عن تحفته الأولي "خافية قمر" فيقول:"هذه الرواية الفائقة الحسن، قد صنعت من مادة الأحلام ورضعت لبان الخيال، واستوت أمامنا خلقا فنيا جميلا، نسعد به، ونعلي في تقديره من شأن مبدعه محمد ناجي..أستاذ الفن الجميل"، وكذلك ماكتبه فاروق عبد القادر عن الرواية ذاتها:"درّة مخبوءة في أكثر من صدفة"، وبعد هذين الناقدين الكبيرين، احتفل النقاد والمثقفون والكتاب بهذا الكاتب المفاجأة، والصامت كذلك، والذي لا يسعي في الأرض تسويقا وترويجا لكتاباته ولنفسه، مثلما نري يوما بعد يوم، كان محمد ناجي عازفا عن هذه السمات التي أصابت كثيرا من المبدعين، فلا نجده متحدثا عن نفسه إلا قليلا، ولا نراه يرتاد الأماكن إلا نادرا، إنه يشبه في ذلك الأمر العظيم الراحل ابراهيم أصلان، كلاهما كان يكتب مايكتب، ولا ينشغل بمسألة التسويق والندوات وحفلات
التوقيع وكتابات النقاد، لذلك فهما يشغلان احتراما عظيما في ضمير الحياة الثقافية.
خافية قمر
لا يصلح في أي كتابة صحفية عن عالم محمد ناجي الروائي، أن يتناوله الكاتب بشكل مجمل، وذلك سوف يحدث مقاربات مغلوطة في عوالمه الواسعة والمترامية الأطراف والشخصيات والأحداث إن جاز التعبير، رغم تقارب المزاج الفني بين معظم ماكتبه، ولكننا لا نستطيع أن نضع روايته الأولي "خافية قمر"، في مقارنة مع روايته الثانية "لحن الصباح"، وهذا ينطبق علي بقية رواياته الست الأخري، ولكننا نستطيع أن نقف عند كل رواية علي انفراد، وأن أؤثر التوقف عند روايته الأولي، هذه الرواية التي قامت عليها أسطورة محمد ناجي الإبداعية، وعندما أقول "أسطورة"، لا أعني التعظيم أو التفخيم، بل أقصد أن عوالم ناجي اتخذت أشكالا أسطورية، رغم أنها تتقاطع مع الواقع وتتوازي معه في منحنيات كثيرة.
وكما حاول ناجي أن يؤطر شخصياته وأحداثه وعوالمه، فهو كذلك لم يترك عالم الشعر علي وجه الإطلاق، بل إننا نستطيع أن نقتبس قصائد شبه مكتملة، مدسوسة بين منعطفات السرد الحادة واللينة في روايته "خافية قمر"، وكذلك رواياته التالية، وهو لا يدسها في شكلها السردي، بل يضعها بطريقة الشعر، نستطيع أن نقولكذلكأن هذه القصائد تتصل وتنفصل عن النص السردي بكل مرونة، فاقرأوا مثلا هذا المقطع:
(لتكن الأرض سندانك
وليملأ رنين ضرباتك السماوات
ياحداد..ياحداد
ألق حديدك في الأتون
واسقه بنار الغضب
واصنع منجلا لنضعه في يد ادريس
وليسطع النصل كمثل هلال
ياحداد
ياحداد)
هنا نلاحظ أن عوامل الاستقلال متكاملة تماما، لولا وجود "ادريس"، الذي جاء ليثبت تواصل النص الشعري، مع النص السردي، ولكن ماعدا ورود اسم ادريس، سيكون النص مستقلا تماما، ومن الطبيعي أنه سيعطي دلالات منفصلة عن النص الروائي، فضلا عن أن ورود هذا النص الشعري داخل الرواية، يلقي بدلالات تواصلية مع كافة ما أورده الراوي في الرواية ذاتها.
كذلك عندما نقرأ:
(قمر فوق
قمر تحت
فخ منصوب في السماء لعيون النساء
وشرك في باطن الأرض
يصطاد خطي الرجال
حاذر، حاذر أيها القادم
قمر فوق
قمر تحت)
وكما فعل في النص السابق، فأورد اسم ادريس، فعل في هذا النص، فأورد اسم قمر، ومن الممكن أن نقرأ "قمر" باعتباره القمر الطبيعي، وليس "قمر" الشخصية الواردة في الرواية، ولكن الراوي أراد بإبداعيته الخاصة أن يصنع أشكالا من الاتصال والانفصال بين الشعري والسردي في نص واحد.
ورغم أن الحكاية كلها تندرج تحت مسمي الرواية، إلا أنها تنطلق من زوايا الرؤية الشعرية بقوة، فمنذ البداية التي يدخل فيها عبد الحارس أحد البارات، وتدور حوارات بينه وبين رفاق البار المجهولين وبين النادل كذلك، نفهم أن الراوي يدخل بنا في عوالم شبه غرائبية وغير واقعية بالمرة، علي الأقل في هذا الحوار الأوّلي، عندما يسأل عبد الحارس النادل :هل يعرف ادريس البكّاء؟، وعندما يجيبه النادل ب"لا"، يندهش كثيرا، من غبائه هذا، أو من جهله، ولكن هذا الحوار لم يأت ولم ينبثق في ازدحام ما، بل دار بعد أن غادر بعض الجالسين الذين كانوا يحيطون بعبد الحارس، وكان الاستهلال الروائي كذلك مفاجئا، وكأن الراوي يواصل حكاية كانت من قبل فيقول في البدء:(لم انتبه لانصرافهم إلا بعد أن كنت قد أتممت حديثي، لم أستطع أن أخمن متي مضوا بالضبط، لا يهم، لا بد أن أحدهم سمعني حتي قرب النهاية.. لم أعرف أحدا منهم ولكنهم عرفوني بالتأكيد، بادلوني التحية...
سألت الجرسون:
متي انصرفوا؟
من؟
هم
جاء ناس كثيرون وانصرفوا
أقصد الذين جلسوا معي
لم ألاحظ)
وبعد بضعة أسئلة وأجوبة يقول للنادل:
أنا عبد الحارس
عبد..؟
عبد الحارس ..ألا تعرفني؟..لك عذرك، إذا كنت لا تعرفني
ولكنك بالتأكيد تعرف ادريس البكّاء
ادريس البكّاء
ادريس ..ادريس .أين يعمل)
ولكن عبد الحارس يحاول أن يقنعه أن ادريس هذا ملك قديم جدا، وله أساطير وحكايات وقصص عجيبة، وعندما يأتي عبد الحارس في اليوم الثاني، يحاول أن يذكّر الجرسون بنفسه فيسخر منه الجرسون ويقول له : إنه تذكره، فهو ابن ادريس الفسّاء، فيصحح له بأنه ليس بفسّاء، ولكنه بكّاء، ويحكي له عبد الحارس بكل جدية حكاية هذا البكاء، وهنا يتواصل مع الجالسين والرفاق العابرين، ويكتشف أن بينهم من يقول له عن "الزباء"، ويدخلان في حوار عبثي حول إن كانت هذه الزباء، والتي اشتهرت علي أنها ملكة اليمن، امرأة أم رجلا، فعبد الحارس يصر! علي أنها امرأة، ومحاوره يؤكد علي أنه رجل، فمثلما لا نستطيع أن نطلق علي امرأة صفة "البكاء" من الناحية اللغوية، فبالتالي هذا ينطبق علي "صفة "الزباء" المذكرة.
ولكن نكتشف عبر كل التطوحات والهذيانات التي يطلقها عبد الحارس، أنه يعاني من جنون ما، فيعترف بين ثنايا الحوارات، بأن هناك رجالا جاءوا في لحظة ما، هؤلاء الرجال كانوا يرتدون أردية بيضاء، ويقتادونه إلي مكان ما، ولذلك فكل ما جاء من حوارات من الممكن أن يندرج تحت تطوحات أو هذيانات أو اعترافات تنبثق تحت أزمات نفسية عنيفة، يعاني منها عبد الحارس الذي عاش أشكالا كثيرة من الانحرافات.
ويعود عبد الحارس إلي سنوات تكوينه الأولي، أي سنوات الطفولة المبكرة، عندما اقتاده عمه إلي الشيخ شاهين الأعمي، وهو صاحب الكتّاب الذي سوف يعلمه القراءة والكتابة والأدب، وكان أول مالمسه من شيخه الأعمي هو العصا، ويردد الشيخ هذا هذه المقولة المأثورة بين الشيوخ وهي "العصا لمن عصي"، ولم يكن الدرس الأول سوي علقة ساخنة، فكان الدرس الأول هو القمع، قبل العلم، وقبل القراءة وقبل الكتابة وقبل الأدب، وعندما ذهب عبد الحارس الي الشيخ شاهين في الكتّاب، سأله الشيخ شاهين :ماهذه؟ فأجاب عبد الحارس بأنه خيرزانة، فأثني عليه الشيخ، وقال له :لا بد أن تذوقها وتتعرف عليها، وراح يضربه في كل منطقة في جسده، حتي قال له الشيخ:"لن أكف عن ضربك، إلا عندما تصمت أيها الكلب"، وهكذا وهكذا تسير أحداث الرواية.
ولكن هذا الشيخ، والشخصية المحورية في الرواية، يكتشف عبد الحارس بأن له علاقة مع أم اليسر بائعة الترمس، وكان عبد الحارس يذهب مع زملائه ليشاهدوا الشيخ وهو يواقع أم اليسر، ولكن برعي يحاول أن يخترع دسيسة بين الشيخ وأم اليسر، فعندما كانت أم اليسر تذهب إلي الشيخ، تأخذ معها أرنبا مطبوخا، فدس برعي للشيخ بأن أم اليسر يوميا تطلب منه أن يصطاد لها قططا من الشارع، وعندما أبلغ برعي الشيخ بهذه المعلومة، كانت آخر الأمسيات بينهما، وكان تلاميذه جميعا يشاهدون موقف الوداع الدامي بين الشيخ شاهين وأم اليسر بائعة الترمس.
ورغم أن هذه الحكاية تتقاطع مع الواقع بكل صوره، إلا أن البحث الدائم لعبد الحارس عن أشكال متعددة لأساطير شعرية شبه غرائبية، مثل خافية قمر نفسها، التي تختفي في مكان ما من الأرض، ولا يستطيع أن يتواصل معها، تمثل لغزا له، ولحكايته، وعندما يلتقي مع رفيقه ابن الزباء الذي التقي به في مستهل الرواية، ويجلسان معا في أحد البارات، ويظل عبد الحارس وابن الزباء يشربان الويسكي، ويتبادلان الحكايات التي تمزج الشعر بالأسطورة بالواقع، الحكايات التي تجعل من الازمنة مزيجا واحدا من الماضي والحاضر، فالراوي استطاع أن يخلق نوعا من السرد يقدر علي هذا المزج بسهولة، كذلك فالقفز من الواقع العيني، إلي المتخيل السردي، في منتهي المرونة، هذا عدا اللغة الشعرية الفائقة، التي تتشكل من مفردات مختارة بعناية فائقة.
هذا فضلا عن البنية الكلية للرواية، والتي تنبني علي ثلاث مقدمات، وكأنها قصيدة، وليست بنية الفصول المعتادة، وهذه المقدمات مبنية علي أساس موضوعي أو شعري، وليس علي البنية الزمنية المعتادة في الرواية.
لذلك جاءت الرواية مدهشة إلي حد بعيد، وليحتفل بها القرّاء والنقاد والمثقفون عموما، وكذلك البعد الانساني العارم الذي يقف خلف هذه الإبداعات التي تركها لنا محمد ناجي، وتنطق بأجمل المعاني النبيلة، والتي تضيف إلي رصيد الرواية المصرية والعربية بشكل حقيقي، وهذا مارشح هذه الروايات للترجمة إلي لغات عديدة، ويعتبر العمر الفني لمحمد ناجي، وهو عشرون عاما، قصيرا جدا لهذا الإبداع المتميز والاستثنائي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.