أسعدني فوز السيّد سمير جريس بجائزة الترجمة الأدبية من الألمانية إلي العربية التي يقدّمها "معهد غوته"، وذلك لما ينطوي عليه ذلك الحدث الثقافي من دلالات. فهو يعني إعلاء لشأن الترجمة الأدبية ودورها في العلاقات الثقافية الدولية وفي "حوار الحضارت"، ذلك الحوار الذي جري التركيز عليه منذ أحداث 11سبتمبر المشؤومة، التي شكلت منعطفاً في علاقات الغرب بالعالم العربي والإسلامي. ومن المعروف أنّ ذلك الحوار قد أخذ شكل "حوار أديان" في المقام الأول، وهو حوار سرعان ما تبيّن أنه محدود الجدوي، وأنه لا بدّ من اللجوء إلي قنوات واسعة للحوار، وأبرزها الآداب، فمن خلال تلقي الآداب الأجنبية يتعرّف المرء إلي "الآخر" وقضاياه الاجتماعية والسياسة والثقافية والأخلاقية، ويصبح أكثر فهماً وتفهماً لها. ولكي يتمكّن المرء من تلقي أعمال أدبية أجنبية، لا بدّ من أن تكون تلك الأعمال مترجمة إلي لغته القومية، وهذا ما يكسب الترجمة الأدبية أهميّة قصوي، ويسوّغ النظر إليها باعتبارها قناة أساسية لحوار الحضارات. علي ضوء ذلك كثرت الإجراءات الهادفة إلي تشجيع الترجمة الأدبية، ومن بينها جائزة "معهد غوته" التي فاز بها السيد سمير جريس. ويكتسب هذا الحدث الثقافي أهميّة خاصّة علي ضوء حقيقة أنّ حركة الترجمة الأدبية من الألمانية حركة متعثّرة، فالقسم الأعظم من الأعمال الأدبية الألمانية المترجمة إلي اللغة العربية لم يترجم عن اللغة الألمانية مباشرة بل عن لغات وسيطة، أبرزها الإنكليزية والفرنسية، مع كلّ ما يعنيه ذلك من خسائر جماليّة وفكرية. أما القسم الأصغر من تلك الأعمال الذي ترجم إلي العربية من اللغة الألمانية مباشرة، فإنّ ترجماته العربية غير موفقة، وتفتقر إلي التناظر النصي والأسلوبي والدلالي مع أصولها الألمانية في كثير من الحالات، وهذا ما بيّنته بصورة منهجيّة في كتابيّ "الرواية الألمانية الحديثة دراسة استقبالية مقارنة" و "هجرة النصوص - دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي" وفي دراسات نقدية أخري. لقد ندب نفسه لترجمة الأدب الألماني إلي العربية أشخاص ذوو مؤهلات أكاديمية عليا :الأستاذ الدكتور مصطفي ماهر والمرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي، لا يستطيع أحد أن يشكّك في سلامة نواياه، ولكنّ هؤلاء الأكاديميين الكبار كثيرا ما يفتقرون إلي الكفاءة الأسلوبية، التي تمكّنهم من تحقيق حدّ معقول من التناظر الأدبي بين الترجمات التي قامو بها وبين الأعمال الأدبية الأصلية، وهذا ما ولّد في أذهان القرّاء العرب، وفي الرأي العام العربي عامّة، صورة مشوّهة وسلبيّة عن الأدب الألماني، وجعل تلك الترجمات غير مؤّهلة لتأدية دورمفيد في الحوار الثقافي بين العالم العربي وألمانيا. علي تلك الخلفية يمكننا أن نفهم ونقدّر فوز المترجم الموهوب سمير جريس بجائزة "معهد غوته" للترجمة الأدبية. فالسيد جريس أحد دارسي الأدب الألماني الشباب، الذين أدركوا أن استقبال الأدب الألماني في العالم العربي ترجميّاً ليس علي ما يرام، وأن ذلك الاستقبال يحتاج إلي جهودهم، بغية تطويره والارتقاء به إلي مستوي يجعله قادراً علي أن يقدّم للرأي العام العربيّ صورة واقعية مناسبة عن الأدب الألماني، وأن يؤدي الدور المرتجي في الحوار الثقافي العربي - الألماني. فقد استخلص سمير جريس من قراءته لذلك المشهد نتيجتين عمليتين: الأولي ضرورة نقد الترجمات الموجودة بصورة صريحة وموضوعية، بعيداً عن المحاباة والمجاملة، وهذا ما فعله في مقالاته الصحفيّة. أمّا النتيجة الثانية فهي ممارسة الترجمة الأدبية، وتقديم ترجمات أفضل، وهذا ما قام به السيد جريس. فقد ترجم إلي العربية عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية الألمانية الحديثة والمعاصرة، وهي أعمال تنطوي ترجمة بعضها علي إشكالية كبيرة، كرواية "عازفة البيانو" للكاتبة النمساوية إلفريده يلينك، الحائزة علي جائزة نوبل للآداب. ومن خلال تلك الترجمات، التي اتسمت بحسن انتقاء الأعمال المترجمة، وبالأمانة النصيّة والجمالية والدلالية للأصل الألماني، تمكّن السيد جريس من تحقيق إنجاز ثقافي كبير، استحقّ عليه جائزة "معهد غوته" للترجمة الأدبية من الألمانية إلي العربية، وهي جائزة تحفزه علي إنجاز مزيد من الترجمات الجيّدة.