يأخذ الروائي المصري عزت القمحاوي فكرة واحدة أو لقطة، صغيرة كانت أم كبيرة ويصنع منها كتاباً أو رواية. هذه عادته وطريقته في البناء السردي وتنويعاته. تتطور تلك الفكرة مثل كرة ثلج لتصبح، مع الاشتغال عليها، متحولة لبنيان كامل وكتلة واضحة الملامح. قد تكون تلك اللقطة أو الفكرة التي التقطها القمحاوي حقيقية أو متخيلة في لحظة هذيان، لكنها في نهاية الأمر تصير كتاباً حقيقياً وملموساً له علاقة وثيقة بأمور الحياة وإشكاليتها. مثلاً: كان صوت المطربة نجاة الصغيرة مفتاحاً لصناعة كتابه " الأيك في المباهج والأحزان" (مجموعة نصوص يحمل كل نص منها موضوعاً محدداً)، كان صوت نجاة هو المفتاح الذي أدار الباب مؤسِساً لكتابة تصويرية تعمل علي تفكيك المشاهد اليومية وتحويلها إلي بورتريهات كاملة وهو نوع من كتابة لم تكن مألوفة بكثرة في الكتابة المصرية بنوع من التحديد. في رواية "الحارس" تبرز الإبرة التي سيقوم عن طريقها سجين في زنزانة بقياس مساحة الغرفة في حين حارس مهمته حراسة زعيم لن يراه. أو حتي في رواية " غرفة تري النيل"، رحلة في أيّام رجل يحتضر ويظهر الأمر كما لو أن الحكاية كلها أتت من زيارة عابرة لأحد المرضي. مايشبه الهذيان بمعني ما. في روايته الجديدة " البحر خلف الستائر" (دار الآداب- بيروت) نجد حالة الهذيان تلك وقد تصدّرت العمل لتصبح مفتتحاً له عبر شخصية الحكاية الرئيسية (الطارئ). " في غرفة فسيحة يسمّونها جناحاً، يعيش. لا يعرف متي يمكنه أن يغادر، ولايتذكر لمَ ومتي جاء. يشعر أحياناً أنّه كان في هذا المكان من قبل، وأحياناً يتخيّل أنه شاهده في فيلم بالأبيض والاسود، بينما يجعله عجزه عن الفرار يعتقد أنه نائم علي سريره في بيته، يحلم بأنه طارئ في غرفة بالطابق الثاني والعشرين من برج ذي ستّة وعشرين طابقاً". كأنه سرد يصف شخصاً واقعاً بين حالتيّ صحو ونوم، لا يعرف أين يقيم في مساحة الزمن بلا فرح أو أحزان، كائن محايد يسيطر عليه احساس امتلاك كل شيء، بما أنه موجود ، واحساس امتلاك لاشيء لأنه غير قادر علي التلاقي النهائي معه. حتي ذلك البحر الذي يطل من خلف ستائر الجناح المرتفع ويراه، لا يقدر علي لمسه أو الغرق فيه، ليس لديه سوي حوض السباحة الذي يقع في الطابق السادس والعشرين وسيكون مساحة لفعل محاولات استدراكية لوضع النقاط علي أحرف الحالة التي يسكن فيها إضافة لكونه سيكون الأدآة التي سيتمكن من خلالها معرفة الفصل السنوي الذي يمر عليه. لا فصول ولا تغييرات في مناخ البرج، سيري ذلك في أشكال وألوان المايوهات التي يرتديها مرتادو الحوض وبحسب تغيرات ألوانها سيفهم أن فصل الربيع قد حلّ أو أن الشتاء قد حان موعد اللقاء به. وإلي حوض السباحة، المتنفس الممكن للحياة هناك البانيو الملحق بالجناح الذي يقيم فيه. سيفعل فيه اختراعات وأحلام يقظة تعيد تأهيل حياته وارتباطه بها بعيداً عن حالة الوحشة التي غرق فيها. يقوم الماء هنا بإعادة ترتيب حياته كي لاتفسد وتعطب. هي مقاومة بحيلة الحلم القادر علي تخطي كافة السواتر الموجودة والمحيطة به. كما وهناك العنصر البشري لكن غير المتاح والمحجوب باشتراطات تمنع مسألة التقاطع معه تحت قوة قواعد تفرضها إدارة البرج التي تمنع العاملات فيه من فعل أي تواصل شخصي مع زبائن البرج الطارئين. هنّ يحتجنّ أيضاً للشعور بكونهن مازلن علي قيد الحياة، وكاثرين واحدة منهنّ " كاثرين في اليوم السابع تكون أكثر فتنة وأطول عنقاً مما هي عليه في ستة أيام". لقد أشعرها هذا الطارئ بكيانها وبوجودها ولهذا " بدأت تعامله كصاحب بيت"، علي الرغم من كونها تعرف أنها تتصرف بشكل مخالف لقواعد البرج الصارمة. تعطيه رقمها وتخبره بشكل خافت أن يحكي معها ليلاً وأن اسمها ليس كاثرين. لكنّها لاتردّ في نهاية الأمر. يتصل ولاتردّ. القواعد فوق كل اعتبار ورغبة. كأنها لعبة تقيم في منطقة العزلة والوحشة وتأتي مفردات " البحر خلف الستائر" لتؤكد هذا المعني وتزيده قتامة عبر تكثيفها وتحديد مهمّتها في الإشارة إلي أكثر اللحظات انكساراً واحباطاً في ذات الطارئ ووصفها لأشكال عدّة من الصدامات التي تأتي بعد اعتقاد من قِبله أن لحظة أمل يمكن لها أن تتحقق. يعتقد أنه الوحيد من سكّان البرج عزلة وبطالة عندما يسمع أصواتاً ناعمة تأتي من الغرفة المجاورة لجناحه، يقتحم الغرفة ليكتشف أن ذلك المقيم وحيد مثله وما ذلك الصوت سوي شيء مسجل وخارج من داخل شيء اصطناعي. تبقي لديه محاولة اقتحام الأمكنة الأخري؛ المصاعد وابتكار وسائل للتواصل مع الراكبين فيها صعودا ونزولاً لكنّ لاشيء ممكن ومتاح. الهبوط إلي المطعم ومحاولاً إعادة تشكيل ترتيب الأطباق المنتشرة علي الطاولات. اللجوء إلي حوض السباحة ثانية. سعي جديد لابتكار حالة تواصل لها أن تعيد جريان الدماء في عروق القلب لكن " لاصوت في المكان إلّا صياحُ مبهمُ للصبي، مضَفَّراً بجديلتين من أصوات الماء: إحداهما وَشِشُ تَسرُّبِ الفائض من حافّة المسبح عبر الصّايات المحيطة بالهلال والأخري طشيشُ صاخب تصنعه ضربات ساقيّ المرأة القويتين. هذا الخلطة الصوتيّة تصعد إلي القبّة وتدوّم تحتها لتسقط وقد صارت أكثر إبهاماً". هكذا يمكن حساب مجموع أشياء لتصبح أو لتتحول لكتلة حياة: البرج الزجاجي، أطباق المطعم، المسبح، المصعد ولا شيء أكثر. حياة أو ما يشبه حياة مطلية بوحشة تامّة وصمت داخلي يأكل النفس ويعطُبها. وكل هذا عبر مفردات وعبارات قصيرة وموجزة إلي أقصي حدود الإيجاز. عبارات نجح القمحاوي في نزع زوائدها لتظهر كما لو أنها تتأمل بدورها معلنة تضامنها مع حالة ذلك (الطارئ) وتبكي من أجله.