كثيرا ما يبدأ خبراء الحفاظ علي التراث في العموم وعلي القاهرة وآثارها ومبانيها التاريخية بالأخص نقاشاتهم حول منهجية الحفاظ بتناول قيمة التراث. فيتحدثون عن القيمة التاريخية أو الفنية أو الروحية أو الاجتماعية أو الاقتصادية ويقارنون بين هذه القيم وأهميتها النسبية وذلك لتحديد استراتيجيات للحفاظ تعطي أولوية للقيم الأهم من وجهة نظرهم. مثلاً إذا كانت القيمة الجمالية للمبني هي الأعلي يقوم مشروع الحفاظ بإبراز مواطن الجمال عن طريق استكمال الزخارف المندثرة. أما إذا كانت القيمة الروحية هي الأعلي فقد يقرر المسئول عن التراث التغاضي عن بعض الممارسات أو الإضافات الحديثة التي لا تتماشي مع الشكل التاريخي للأثر إلا أنها هامة بالنسبة للزائر. فيسمح مثلاً بالأنوار الكهربائية القوية أو الميكروفونات العالية أثناء الموالد المقامة بالأضرحة التاريخية بالرغم من أن ذلك قد يتنافي مع قواعد الحفاظ الصارمة. ومن الملحوظ أن الكثير من هذه القيم الاجتماعية والاقتصادية والوظيفية مثلاً هي قيم معاصرة تعكس المتطلبات اليومية لمستخدمي الآثار. وقد يري البعض ان في محاولة التوفيق بين هذه القيم وبين أهمية الأثر كقطعة من تاريخ القاهرة تنازلات قد تضر بالأثر. إلا أنه يجدر الإشارة الي أن قيمة الأثر الواقع في المدينة التاريخية تكمن بالأساس في الدور الذي يلعبه في استدامة هذه المدينة. حيث أن المدينة ككل هي موقع التراث واستراتيجيات الحفاظ يجب أن تتناولها كوحدة عمرانية متكاملة بمبانيها القديمة والحديثة وشوارعها وميادينها وناسها. القاهرة التاريخية ليست متحفاً مفتوحاً. هي مدينة حية نامية دائمة التغير ذات تاريخ قديم تبحث عن سبل للتطوير تساعدها علي البقاء وعلي صنع حاضر يصبح في المستقبل تاريخاً جديراً بالحفاظ. فنجد أن من أهم أسباب إدراجها كموقع تراث عالمي من قبل اليونسكو أنها مدينة تاريخية حية. إلا أن تحديد هذه القيم والمفاضلة بين الأهمية النسبية لكل قيمة علي حدة ليس أمرا هينا. فلكل طرف من الأطراف المعنية بالمدن التاريخية رأي مغاير حول القيمة النسبية للأثر أو للممتلك الثقافي. فيري الأثري أن الأهمية التاريخية هي الأصل وأن أي نشاط قد يضر بالأثر ويأخذ من قيمته التاريخية لا لزوم له. فيعارض مثلا إعادة استخدام الأثر في وظيفة مغايرة لوظيفته الأصلية مثل استخدام السبيل كمحل تجاري أو الكتاب كمطعم بالرغم أن هذه النشاطات لا تشكل خطراً علي الأثر. أما المستخدم للأثر فيتأفف من الاحتياطات الحفظية التي قد تحد من حريته في الاستفادة من الأثر مثل منعه من زرع الأشجار أمام الأثر مثلا لأن الجذور والماء قد يضر بالأساسات. وتقع علي خبير الحفاظ مسئولية التوفيق بين متطلبات الأطراف المعنية بالتراث من حكومة وأهالي وزوار ودارسين وملاك ومستأجرين وبين المتطلبات الفنية للحفاظ علي الممتلك الثقافي أي الأثر أو المبني التاريخي. كما أنه يجب ألا يغفل عما يسمي بالتراث غير الملموس العادات والتقاليد والفنون والمعتقدات والطقوس والنشاطات اليومية ذات المرجعية التاريخية أو كل ما يجعل المدينة مدينة وليس متحفاً. إذن الموضوع معقد وقد يكون البعد الفني أبسط الأبعاد في منظومة الحفاظ. إلا أننا كخبراء تراث غالبا ما نركز فقط علي هذا البعد. فنقوم بترميم الأثر ونبذل قصاري جهدنا في أن يأتي الترميم علي أكمل وجه ولا نضع في اعتبارنا ما سيؤول اليه المبني بعد الترميم. هل يغلق ويترك دون صيانة كما هو الحال في كثير من مشاريع الترميم؟ هل يستخدم فقط كمزار أثري؟ أم هل نتخذ التدابير ليكون الاثر مورداً مجتمعياً يستفيد منه أكبر قدر من الأطراف وبالتالي يتشاركون في الحفاظ عليه؟ هذه المقدمة الطويلة ليست لمجرد التنظير. هي محاولة لإشراك القارئ في التأملات والمناقشات التي انبثقت عنها مبادرة الأثر لنا وهي مبادرة تهدف الي استخدام منهجيات التصميم التشاركي للحفاظ علي شارع الخليفة - أي المنطقة الواقعة بين جامع أحمد بن طولون بالشمال وميدان السيدة نفيسة بالجنوب وبها عدد من الآثار الهامة ذات القيمة التاريخية والدينية مثل قبة السيدة رقية والجعفري وعاتكة وجميعها أضرحة فاطمية لآل البيت وقبة شجرة الدر الأيوبية وكذلك مدرسة الأشرف خليل وقبة فاطمة خاتون من العصر المملوكي. بدأت المرحلة الأولي لمشروع (الأثر لنا) في يونيو 2012 وانتهت في ديسمبر من نفس العام وكانت من تمويل المعهد الدنماركي المصري للحوار وبالشراكة مع وزارة الدولة للآثار وبدعم فني من جمعية الفكر العمراني (مجاورة). المشروع بدأ بالكثير من الكلام وتطور ليأخذنا معه لمرحلته الثالثة الآن والتي تشتمل علي الكثير من العمل. تعريف المرحلة الأولي للمشروع كما هو مذكور بموقع الأثر لنا (www.atharlina.com) كالآتي: "مشروع تصميم تشاركي ينقسم إلي مجموعة من ورش العمل والندوات والاجتماعات لمناقشة علاقة الأثر بالمنطقة المحيطة به (حرم الأثر) وسكان المنطقة وكذلك الجهات المسئولة عن الأثر والمهتمة به والمستفيدة منه و المتضررة منه أيضا نتناقش حول من يملكه ومن يحميه ومن يطوره ومن يتعرض له وذلك بغرض تقريب وجهات النظر المختلفة بين الأهالي والحكومة والمجتمع المدني. المنهج المتبع هو منهج التصميم التشاركي حيث يتشارك الجميع في عملية اتخاذ القرار بكل تفاصيلها وذلك لتضييق الفجوة بين الأثر والمجتمع للسماح بعودة ملكية الأثر لمجتمعه، ومن ثمّ زيادة الوعي المحلي بقيمة الأثر مما يضمن حمايته من خلال استخدامه. القضية الاْشمل هي علاقة الأثر بالمنطقة المحيطة وكذلك بالأطراف المسئولة عنه من الأهالي والحكومة والمجتمع المدني ونتناولها من خلال مناقشة قضية حرم الأثر بمنطقة معينة هي شارع الخليفة." وكان ذلك من خلال عدد من الخطوات بدأت بندوة تعريفية بفكرة المشروع أقيمت بجامع أحمد بن طولون تلتها ثلاثة ورش عمل بمشاركة مزيج من الأهالي والجهات الحكومية والعاملين بالمؤسسات المجتمع المدني والتعليم العالي والجهات الاحترافية المعنية بمجال التراث وبالقاهرة التاريخية. ناقش فيها المشاركون تضارب المصالح بين الأطراف المختلفة فيما يخص القاهرة التاريخية بالعموم وشارع الخليفة بالأخص وكيفية التوفيق بينها. كما حاولوا الإجابة عن سؤال: من يملك الأثر؟ وبالتالي من المسئول علي الحفاظ عليه؟ وما الفائدة التي ستعود من الحفاظ عليه علي الأطراف المعنية مع تعدد توجهاتهم ومصالحهم؟ تلي ذلك اجتماع مفتوح ثاني بجامع أحمد بن طولون تم من خلاله عرض ما توصلت اليه الورش من أفكار مبدئية حول مواقع أثرية ومحيطها بشارع الخليفة ممكن التدخل فيها من خلال مشاريع تأخذ في الاعتبار المتطلبات المتضاربة للأطراف المعنية بحيث يأتي المشروع بفائدة علي جميع الأطراف مما يشكل حافزا للأهالي والجهات الحكومية والمجتمع المدني للحفاظ علي الآثار. ثم جاءت الخطوة الأخيرة لهذه المرحلة حيث اجتمع عشرون من المشاركين الستين الأصليين ليدرسوا بالتفصيل موقعين بشارع الخليفة حول قبة شجرة الدر وحول مسجد وضريح سيدي محمد الأنور للوصول الي مقترحات أكثر تفصيلاً وذلك في إطار دراسة عامة لمتطلبات شارع الخليفة. وكانت النتيجة مجموعة من ورقات العمل تصف المقترحات التي تنوعت بين فكرة إنشاء مركز اجتماعي/سياحي حول قبة شجرة الدر ومقترح مبدئي لمراحل العمل في مشروع ترميم لمسجد الأنور من تمويل الأهالي مع مقترحات لاستغلال الأراضي الفضاء المحيطة به. كما تم طرح حصر للأراضي الفضاء بالشارع مع مقترحات لكيفية استخدامها وذلك في إطار دراسة لاحتياجات الشارع ككل. وكان من ضمن كتيب المشروع ورقة عمل لم تكن في الحسبان تتناول متطلبات الأطفال حيث ان النقاش كان كثيراً ما يتطرق الي ضرورة استهداف الأطفال لتشكيل نشء مرتبط بالآثار ومدرك لأهمية التراث. وطرحت ورقة العمل هذه مقترحين الأول لمناطق للعب الأطفال بالأراضي الفضاء بالشارع والثاني لمدرسة للتراث والفن داخل إحدي مدارس الشارع الحكومية مدرسة شجرة الدر الابتدائية. ومع انتهاء المرحلة الأولي للمشروع كان الجميع متحفزاً للعمل حيث كنا جميعا بصراحة قد سئمنا الكلام. وكانت فكرة مدرسة التراث والفن الأقرب للتنفيذ حيث كانت قليلة التكاليف تعتمد في الأساس علي قدرتنا علي حشد المتطوعين الذين سيعملون مع الأطفال علي تنمية معرفتهم بآثار الشارع من خلال نشاطات فنية وحرفية ومسرحية بالإضافة الي زيارات ميدانية للآثار. وتمت هذه المرحلة المرحلة الثانية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ووزارة الدولة للآثار وبتبرعات مالية ومجهودات تطوعية من عدد من المهتمين بالآثار. وقام أطفال الصفين الخامس والسادس الابتدائي بمدرسة شجرة الدر بتمثيل قصة السلطانة شجرة الدر ورسم آثار متحف جاير أندرسون وتشكيل مشغولات من الجبس مستوحاة من زخارف قبة السيدة رقية والبحث عن الكنز من خلال حل مجموعة من الألغاز المستوحاة من عمارة جامع أحمد بن طولون داخل الجامع نفسه. أما المرحلة الثالثة وهي المرحلة الحالية فقد بدأت في شهر أكتوبر 2013. وتشمل مشروعاً لترميم قبة شجرة الدر جار العمل به الآن تحت إشراف وزارة الدولة للآثار وبتمويل من مركز البحوث الأمريكي ومؤسسة بركات كذلك مشروع لإعادة تأهيل مبني من العقد الثاني من القرن العشرين تابع للقبة وهو مبني غير مكتمل استخدم جزءاً منه كمستوصف. والفكرة هي إعادة تشغيل المستوصف وإعداد باقي المبني للعمل كمركز خدمي سياحي. وقد انتهينا الآن من تشغيل المستوصف وكذلك من إنشاء مدرسة صيفية لأطفال المنطقة تحت إدارة مشتركة بين أهالي المنطقة وجمعية الفكر العمراني (مجاورة) وما زلنا نعمل علي استكمال أعمال ترميم المبني. أما الشق الثالث للمرحلة الثالثة (الخليفة من جوة لبرة) فقد جاء بالتعاون مع الحكاءة شيرين الأنصاري وبتمويل مبدئي من المجلس الثقافي البريطاني ويهدف الي إشراك المجتمع في جميع خطوات المشروع من خلال سلسلة من نشاطات الحكي يتداخل فيها تاريخ الأثر مع قصة الشارع المعاصر ويتعرف الناس علي تراثهم وكيف انه يشكل مع تاريخهم الشخصي نسيجاً قوياً متناسق الألوان والخيوط - ولنؤكد علي ان الأثر ملك الناس وان الناس مكانهم داخل الأثر يستفيدون منه روحياً ومادياً وثقافياً وبالتالي يحافظون عليه.