القلم هو مستند البقاء الأول للجماعة الإنسانية ، ومن هنا اختفت الثقافات التي لم تكتب ، وبقيت الثقافات الكتابية المدونة ، بقيت في الزمان متحصنة بموروثها المكتوب ، تتوهج شعلتها الحضارية حينا وتخبو أحيانًا ، ولكنها لا تنطفئ أبدًا مع أن خزائن المخطوطات تعرضت خلال التاريخ القديم والحديث والمعاصر إلي كوارث كبري أدَّت إلي اندثارات مبكية للمجموعات الخطية العربية ، إلا أن مئات الآلاف من المخطوطات العربية ( والإسلامية بعامة) نجحت في البقاء حتي يومنا هذا متحدية عوامل البلي والفقد غير أن مشعل الحضارة لما خبا في ديارنا واحتدمت تقلبات الزمان واشتدت ببلادنا الأحوال ذهلنا عن تراثنا ، وانسربت أنهار المخطوطات من أماكن حفظها الأصلية لتصب في غير ديارها أو انطمرت في أرجاء بلادنا "الفقيرة" خاصة مع تردي الأحوال في الآونة الأخيرة وعدد من المخطوطات لا يعلمه إلا الله ، غاب في خزانات خاصة خليجية وأوروبية هنا وهناك ، وعدد أكبر أثناء نهبه اختفي أو تواري في أنحاء قاصية يصعب الوصول إليها وليس ببعيد علينا كارثة إحراق المجمع العلمي المصري بثروته القومية من الكتب والمخطوطات التي لاتُقدر بثمن حين أُحرقت واحترقت معها قلوبنا ونحن نشاهد النيران وهي تلتهم تراثنا وتاريخنا ، ثم كارثة إحراق دار الكتب العامة بالمنصورة بعد أن تحولت الدار إلي مخزن للكتب والمخطوطات لا مكانا للقراءة والبحث . وقد كتب أنيس منصور- منذ سنوات - منددا بمن قام بهذا العمل داعيا إلي ضربه ب "القباقيب" - وهو جزاء شجرة الدر - جزاء هذه الفعلة الشنعاء وإعادة الدار لمهمتها وهي مكان للقراءة خاصة أن بها الكثير من المخطوطات التي تنفرد بها. ولكن احترقت دار الكتب بما فيها من ذخائر ونفائس ومخطوطات . ومن بين الذخيرة التراثية المرشحة لنفس مصير مخطوطات المجمع العلمي ودار الكتب بالمنصورة طائفة من النسخ المخطوطة ذات الألق الخاص ، وذات العبق التاريخي وذات الحضور الممتد عبر القرون ولكنه اليوم مطمور ومتوارٍ ومهمش تلك هي مخطوطات دار الكتب العامة بالزقازيق (التي تتبع إداريا كلا من المحافظ ووزير الإدارة المحلية ولا وصاية لوزارة الثقافة عليها !!) وتضم بين جنباتها أكثر من 200 مخطوط منها ما هو نادر (كرحلة الحاج المغربي البيشي إلي الحجاز والتي يرجع تاريخها إلي أوائل العصر العثماني ولا يوجد لها نسخ أخري في العالم) إضافة إلي عشرات الكتب التاريخية والمخطوطات الملونة التي أهداها سمو الأمير عمر طوسون إلي الدار ونهب العديد منها وتم التحايل بتسجيلها عهدة متهالكة بسبب سوء الاستخدام . ومن ثم قامت إدارة الدار بجمع كل المخطوطات في دولاب حديدي مغلق بجوار النافذة غير مكترثين بتعرضه للحرارة وسوء الأحوال المناخية منذ أكثر من تسع سنوات مما أثر علي حالة المخطوطات والكتب وتعرض العديد منها للتلف بسبب سوء التخزين وسوء التجليد والحفظ . وبعد نداء وجهته إلي معهد المخطوطات العربية بالقاهرة التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) وهو الجهة العربية الوحيدة المخول لها مهمة تصوير المخطوطات والحفاظ علي ذاكرة هذا التراث المخطوط منذ تأسيسه عام 1946م ، قام بمحاولة جادة وتواصل رسميا مع إدارة الدار ومع محافظ الشرقية د.سعيد عبد العزيز ؛ من أجل تصوير هذه النوادر وإتاحتها لجمهور المثقفين في صورة رقمية وإيداع نسخة رقمية منها بالدار وبعد موافقة السيد المحافظ وتحويل الأمر إلي القائمين علي المكتبة وهي مديرة لا تكاد تفرق بين الكتاب المخطوط ذي الخصوصية الشديدة والكتاب المطبوع . فوجئ المعهد برفض المديرة للطلب الذي وقع عليه السيد المحافظ وتجاهلته ؛ متعللة بأنها لا تعرف هذه الجهة (تعني: معهد المخطوطات العربية بالقاهرة التابع للجامعة العربية ومصر عضو مؤسس لها).وأنها سألت إدارة (دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة) عن المعهد فقالوا : إنهم لا يعرفون المعهد وأنهم مستعدون للقيام بما سيقوم به المعهد وهم ما لم يحدث إلي اليوم. وفي محادثة هاتفية من جانب مديرة الدار مع المسئولين عن هذا الملف بمعهد المخطوطات كل من (د.فيصل الحفيان ، ود. أحمد عبد الباسط ) سألتهما سؤالا إن نم عن شيء فإنما ينم عن عدم وعي المسئولة بقيمة المخطوطات العربية قالت: لماذا تريدون تصوير هذه المخطوطات بالذات وبعضها موجود في دار الكتب ومكتبة الإسكندرية ومكتبة الأوقاف؟ وما هو العائد المادي الذي سيعود علي الدار ؟!! وحاول المسئول إفهامها أن كل مخطوط يحمل خصوصية خاصة وإن اشترك في العنوان مع غيره وأنه يختلف عن الكتاب المطبوع.وأنهم مستعدون للتبرع المالي والعيني لدار الكتب بالزقازيق مقابل تصوير المخطوطات ووضع نسخة منها لدي الدار والأخري بالمعهد صونا لها من الاندثار، ولكن دون جدوي أو وصول إلي الغاية المطلوبة وهو حماية هذا التراث المخطوط من عبث العابثين. إن الضمير الثقافي لايجب أن يطمئن وأكثر من 200 مخطوط معرض نادر أسير قفص حديدي بمكتبة "دار الكتب العامة بالزقازيق" التي تقدم نموذجاً صارخاً في التعامل مع تراث الأمة واستباحة هذه المخطوطات التي تعد كنزاً وطنياً وتراثاً فريداً. نفس المنطق الذي أطاح بكنوز المجمع العلمي ومن قبله قصور مصر وفيلاتها الأثرية التي كانت بمثابة كتاب مفتوح يروي تاريخ المدن وربما تاريخ الوطن كله . إن منطق الإهمال والتغافل لا يضع أهمية لشئ اسمه التراث والتاريخ أو ذاكرة الأمة ومقدساتها ولهذا يستبيح كل شئ علي أساس أنه يفترض أن القيمة الوحيدة هي قيمة المال !.