الصوم ليس فقط ركنا من أركان الإسلام، فالعالم عرف الصوم قبل ذلك بكثير، حيث انتشرت حالات ندرة الطعام عبر تاريخنا الإنساني، وكذلك وجدت القواعد الجماعية، الخاصة بالمشاركة علي الأقل في بعض الطعام المتاح في المجتمعات الإنسانية والحيوانات من الرئيسيات. هنا يتتبع ريك جولدبرج بداية معرفة العالم لحالات الامتناع عن الطعام وأيضا الاسباب والدوافع وراء هذا الأمر، فغالبا ما كان يتم النظر إلي حالات الصوم الفردية علي أنها حالات مفعمة بالورع، وكان ينظر إليها علي أنها تجسد شكلاً خاصًا من أشكال الضبط للنفس، وتكفيرًا أيضًا من جانب المرء عن خطاياه، كما استخدمت نظم الرهبنة حالات الصيام من أجل خفض الرغبة الجنسية، ولتعزيز العزوبة أو التبتل، والرفع أيضًا من قيمة الزهد والتقشف في مواجهة حالات الانغماس في الملذات، لكنها وفي بعض الأحيان يكون لها أهداف أخري وربما سياسية أيضا فالمهاتما غاندي علي سبيل المثال كان ناجحًا جدًا في استغلال حالات الصوم من أجل تعزيز برنامجه السياسي. يتتبع المؤلف أيضا حالات البهجة المصاحبة لتناول الطعام في ذلك العالم القديم، حيث كانت إقامة الولائم نشاطًا دوريًا متكررًا يقوم به أعضاء الطبقات العليا الذين يقدرون علي المشاركة التنافسية في تلك التسلية الخاصة بالكرم والتبذير، وفي مصر القديمة حيث كانت وجبة تناول الطعام العامة أشبه بالخبرة الجمالية. كان الاكتساب للطعام أو الحصول عليه من خلال الصيد، في الغالب، نشاطًا جماعيًا، وقد كان يتم خلاله إثابة التعاون من خلال طريق ذلك النجاح الذي يقوم به الجميع خلال هذه العملية، ولكن مع وجود نجاح نسبي أكبر للصيادين البارزين في هذه العملية. هكذا كان يتم تخويل، أو تكليف، قائد مهمة الصيد، عندما يتحقق نجاح هذه المهمة بأن يأكل وأن يوزع حصصًا متناسبة من لحم الفريسة في ضوء مدي مشاركة كل فرد في عملية الصيد. ونتيجة لذلك، فإنه قد يكافئ أفراد العائلة والأصدقاء وفقًا لتفضيلاته الخاصة. وهكذا فإن سلطة الصيادين ذوي المكانة العالية المرموقة أمر جيد بالتنويه هنا. لقد انتشرت حالات ندرة الطعام عبر تاريخنا الإنساني، وكذلك وجدت القواعد الجماعية، الخاصة بالمشاركة علي الأقل في بعض الطعام المتاح في المجتمعات الإنسانية والحيوانات من الرئيسيات. وقد تتمثل الفائدة الوظيفية للمشاركة في الطعام، والتي يقوم بها الكرماء من القوم، في جانب منها، في التقليل من تلك التكاليف المرتبطة بالعيش الجماعي. ومن المحتمل تمامًا أن نوعنا البشري قد تطور علي نحو شديد الترابط في شكل عُصَب صغيرة أو زُمر، فيها كانت القدرة الخاصة بالأفراد ذوي المكانة العالية وكذلك قدرة أتباعهم، علي التعاون، والعيش في تناغم كاف، أمرًا ضروريًا للبقاء علي قيد الحياة. إن هناك عددًا أقل من السلوكيات الخاصة بنا، التي نكون واعين بها، مقارنة بذلك الوعي الأكبر الذي نبديه تجاه أنماط تناول الطعام الموجودة في عائلاتنا ولدي جيراننا. وكثيرًا ما تتوجه سهام النقد التي تحويها سلوكيات مثل الافتراء أو تشويه السمعة والنميمة أو القيل والقال والسخرية، والتي هي أسلحة التحقير الاجتماعي والموجودة منذ القدم نحو عادات الأكل الخاصة بالأفراد أو الجماعات التي توجه إليهم مثل تلك الانتقادات. وبالإضافة إلي ذلك كله، فإنه يبدو أننا قد قمنا بتطوير نوع من الكف السلوكي الذي يمنعنا من تناول الطعام في حضور أفراد لا يقومون بتناول الطعام أثناء تناولنا له. ولذلك فإنه عندما يريد شخص أن يأكل أمام جمهور ما فلابد وأن تكون لديه رغبة في أن يشاركه الآخرون في طعامه. ولا تتأثر الولائم الجماعية بمثل هذا النوع الطبيعي من الكف لتناول الطعام أمام جمع من الناس، وذلك لأنه يكون في مقدور كل إنسان هنا أن يتناول كل ما تستطيع أن تتحمله معدته من طعام؛ ربما عبر عدة ساعات، تستغرقها الوليمة، أو حتي أيام. ومن المقومات المشتركة أو المألوفة في عمليات المشاركة في الطعام أثناء الولائم ذلك التبادل الاجتماعي المشترك لتلك المقولات ذات الصبغة الدينية والتي تشير إلي كيانات أو هويات فاعلة خارقة للطبيعة والتي بفضل إحسانها، تم تقديم الطعام بمثل هذه الوفرة. يشير الامتناع عن الطعام أيضًا، مثله مثل المشاركة فيه، وعلي نحو موثوق به، إلي رغبة ما في التضحية أو التقرب وخلال فترة قصيرة من الزمن، فعندما يشترك الأفراد في مثل هذا الصوم التقربي فيخضعون لذلك النظام الصارم الخاص بالامتناع المؤقت عن تناول الطعام؛ فإنهم يتواصلون بإخلاص معبرين عن وجود رغبة قوية لديهم للتعاون مع كل ما هو موروث ومجازي ومنحدر إليهم علي نحو مألوف من أسلافهم المشتركين. كذلك تظهر تلك القدرة علي مقاومة الأثر الشديد أو المعوِّق للصوم، حالة ما من التمتع بالصحة والقوة التي يبديها الفرد أمام رفاقه الممكنين وكذلك أمام المنافسين لهؤلاء الرفاق. ومن أجل تعظيم أثر هذا العرض التقربي الذي يقوم به الفرد، قد يشتمل الصيام علي حالات من الحرمان من الاغتسال أو الاستحمام، والحلاقة، وارتداء المجوهرات، والملابس أو الأحذية الجذابة، أو حتي العمل من أجل كسب المال. كذلك فإن حالة نكران الذات المتمثلة في رفض المرء أن يأكل حصة كافية من الطعام؛ أمر سيعزز أيضًا مكانته الاجتماعية وهناك فائدة مضافة هنا أيضًا، فالفرد الصائم سوف يعفي نفسه مؤقتًا من ذلك الواجب الخاص بتقديم الطعام للآخرين. وذلك لأنه نادرًا ما يتوقع من امرئ أن يشترك، أو يندمج، في فعلين من أفعال التضحية أو التقرب (الصيام وتقديم الطعام أثناء الولائم) خلال الوقت نفسه. الخصائص المميزة لحالات الصوم خلال القرون الوسطي، وداخل المذهب الكاثوليكي المسيحي، اعتبرت الحالات المتعمدة والمتطرفة من التخلي عن الطعام والشراب والزهد فيهما أمثلة دالة علي ذلك التقشف أو التنسك "الشجاع" والذي ميز القديسين. وقد تم النظر إلي تلك الممارسات علي أنها من بين أكثر القيم المسيحية علوًا، وأنها تحدد ملامح تلك الحياة المثالية التي حظيت بإعجاب الجماهير الغفيرة. وقد استخدمت نظم الرهبنة حالات الصيام من أجل الخفض للرغبة الجنسية، والتعزيز للعزوبة أو التبتل، والرفع أيضًا من قيمة الزهد والتقشف في مواجهة حالات الانغماس في الملذات، ومن أجل الكبح لشهوات أجساد الرهبان أنفسهم. وقد تم النظر إلي حالات الصوم الفردية علي أنها حالات مفعمة بالورع، وكان ينظر إليها علي أنها تجسد شكلاً خاصًا من أشكال الضبط للنفس، وتكفيرًا أيضًا من جانب المرء عن خطاياه، أو حالة عامة من الكبح للشهوات المتعلقة بالخطايا داخل المجتمع. وقد كان يتم تسليم الأموال التي توفر من الوجبات التي لا تؤكل خلال ذلك الصيام إلي المحتاجين. وبينما كان يُنظر إلي حالات الصوم التي تتم من أجل الارتقاء الروحي علي أنها تدل علي التقوي والورع، فقد كان يُنظر إلي حالات الصوم التي تحدث من أجل تحسين حالة الصحة أو الجمال علي أنها تدعو إلي السخرية. والأمر المثير للاهتمام هنا أن النساء اللائي تم تطويبهن ، لاحقًا، علي أنهن قديسات قد استخدمن الصوم كوسيلة للزهد والتقشف بشكل يفوق استخدام الرجال الورعين لهذه الوسيلة. فعلي الرغم من أن النساء كن يمثلن فقط حوالي 18٪ من هؤلاء الذين قامت الكنيسة بتطويبهم أو ضمهم إلي طائفة القديسين في الفترة من عام 1000 ميلادية وحتي العام 1700 فقد كن يمثلن أيضًا حوالي 50٪ من مجموع هؤلاء الذين - واللائي كانت معاناتهم من المرض خلال حياتهم - وقد حدث هذا المرض، غالبًا، بسبب الصيام من أجل التكفير عن الذنوب - العامل الرئيسي في وصولهم إلي مراتب القديسين. في الديانة الهندوسية يتميز الصوم بمدي واسع من حالات الامتناع عن الطعام، بدءًا من الامتناع عن أنواع معينة من الطعام، ووصولاً إلي حالات الامتناع التام عن أنواع الطعام كلها. وتقضي معظم حالات الصوم في الهندوسية بعدم التناول لأطعمة معينة كالأرز المطبوخ مثلاً، بينما يسمح بتناول أطعمة أخري، كالفاكهة وتحدث حالات الصوم من أجل الوفاء بقسم أو نذر، وتحدث خلال أيام معينة من الأسبوع أو الشهر، أو خلال أوقات معينة من السنة. وفي حين أن صوم الرجال الهندوسيين يحدث من أجل الوصول إلي مستوي ما من مستويات الجدارة أو الاستحقاق الشخصي، فإن حالات الصوم الأكثر تكرارًا لدي النساء تكون بمثابة الأمر الذي يأخذن علي عاتقهن مهمة القيام به بالنيابة عن أزواجهن أو عن عائلاتهن الممتدة أيضًا. لقد كان المهاتما غاندي ناجحًا جدًا في الاستغلال لحالات الصوم من أجل تعزيز برنامجه السياسي، لقد قام، وعلي نحو استراتيجي، بالتوفيق بين قدرته علي توحيد الشعب الهندي عامة وبين تلك الشهرة الجماهيرية الواسعة لحالات صيامه المتعمدة والمعلنة مقدمًا. ولقد عرف غاندي جيدًا، وكصحفي، تلك القوة التي يمكن أن تتدفق عبر تلك العمليات الخاصة من الإنكار للذات والتي يتم تنظيمها أو تنسيقها جماهيريًا لإحداث أكبر قدر من التأثير، وقد استخدم هذا الأسلوب من أجل أن يخلص بلده من الحكم البريطاني، واستخدمه بعد ذلك كي يمنع حدوث حالات إضراب داخلية. وقد كانت حالات الصيام، بالنسبة لغاندي، فئة فرعية من فئات القسم أو النذور الدينية. وكما كتب هو نفسه قائلاً: "إن شخصًا لا يتقيد بنذوره شخص لا يمكن الاعتماد عليه أبدًا". ويعتبر الصوم، في القرآن، أحد أركان الإسلام، أو أعمدته الأساسية، ونظامًا يدل علي التقوي المصحوبة بتسليم المرء أمره الله. وقد يفرض الصوم هنا كنوع من الكفارة عن إثم أو كطقس من طقوس التطهر من ذنب. ويمارس الصوفيون الصوم بوصفه "المانترا" Mantra من أجل الهدم المنتظم للأنا، والذي ينتج عنه الوصول إلي حالة "الفناء"، فناء هذه الذات أو محوها. وخلال شهر كامل من الصوم، هو شهر رمضان، لا يأكل المسلمون جميعهم شيئًا، خلال ساعات، لكنهم يقيمون الولائم العامرة بعد غروب الشمس. وفي دراسة مسحية حديثة قام بها باحثون فرنسيون، وجد أنه وبينما قال 36٪ فقط من المسلمين إنهم حريصون علي التقيد تمامًا بالقوانين والقواعد والعادات الإسلامية في حياتهم، فإن 70٪ منهم قد قالوا إنهم حريصون علي الالتزام تمامًا بشروط وقواعد وعادات صوم رمضان. وأيضًا فإنه وعلي الرغم من أن أقلية صغيرة من اليهود الأمريكيين هي فقط الحريصة علي التقيد التام بالقوانين والقواعد والعادات اليهودية وإلي حد ما، فإن نسبة مئوية أكبر من ذلك تمامًا قد زعمت، علي الرغم من ذلك، أنها تلتزم بصوم يوم كيبور أو عيد الغفران yom kippur. قد يصوم اليهود كأفراد للتكفير عن خطيئة، أو للتداوي من ذلك التأثير الخاص بالأحلام السيئة أو الكوابيس. لكنهم يصومون أيضًا، علي نحو جمعي، من أجل التماس عون الله لهم في الحرب، وطلبًا كذلك لرحمته بهم، وأن يخفف عنهم بعض الظروف المؤلمة كالقحط أو الجفاف، وهم يصومون علي نحو جمعي، أيضًا، من أجل التذكر لكوارث تاريخية، أو من أجل الحث علي السعي بغية الوصول إلي الروح الفردية والجماعية (كما في صوم عيد الغفران مثلاً). وتعاقب الشريعة اليهودية هؤلاء الذين لا يشاركون في الصوم الجماعي من خلال تهديدهم بأنهم سيصبحون منبتين، أي يتم اجتثاثهم من تلك الجذور الخاصة بشعبهم. ويقال إن النبي موسي قد صام أربعين يومًا قبل أن يتلقي الوحي فوق جبل سيناء. وينظر إلي الصوم، في الكتاب المقدس، علي أنه نوع من الإعداد أو التهيؤ للنبوة، وذلك لأنه، في بعض الحالات، يعمل علي إثارة نوع من الحساسية الخاصة التي تهيئ صاحبها لتلقي الرؤي الخاصة ومن الحكايات والنوادر التي تروي أن النازيين لم يقدموا لليهود في معسكرات الاعتقال - التي وضعوهم فيها - طعامًا طيبًا، إلا خلال أيام الصوم اليهودي، وذلك في محاولة منهم للسخرية من اليهودية ولتحطيم حالة التضامن بين اليهود. وقد كان من المعتاد في الصين، وخلال فترة الاستباق أو التوقع لإقامة شعائر أو طقوس مهمة أن يقوم الكائن الرئيسي في هذه الشعائر بصوم ما من أجل التطهر. وعلي سبيل المثال، تقوم الكاهنة التي تنتمي إلي ديانة صغيرة يقوم مذهبها علي أساس العناية بديدان القز التي تنتج الحرير بإعداد نفسها لهذا الطقس السنوي عن طريق الصوم عدة فترات قبل ذلك. أما في الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، فتعد قواعد الصوم أحد العناصر الأساسية المكونة للهوية المسيحية هناك. وبالنسبة للأفراد العاديين من الإثيوبيين، يتراوح عدد أيام الصوم التي لوحظت لديهم سنويًا ما بين 110-150 يومًا، أما بالنسبة للكهنة والرهبان فيهم فيصل عدد هذه الأيام إلي 220. وتخصص طائفة المورمون يومًا كل شهر من أجل الصوم، يتم الامتناع خلاله عن الطعام تمامًا. والهدف الرئيسي من مثل هذا الصوم المساهمة في التوفير للطعام (أو للمال المقابل له) من أجل الفقراء. وقد أوصي مجلس الكنائس العالمي في العام 1974 بضرورة تخصيص يوم كل شهر يتم الصيام خلاله من أجل توفير الطعام لهؤلاء الذين يحتاجون إليه. وقد طلب من أعضاء الطوائف المختلفة داخل هذا المجلس أن يستخدموا المتوفر من الاعتمادات المالية الخاصة في أغراض الإحسان والتصدق علي المحتاجين. وقد استخدمت الممارسات الخاصة بإنكار الذات المرتبطة بالطعام خلال بعض الأحداث والمناسبات السياسية وكذلك المتعلقة بتوفير الدعم المالي المخصص لأغراض إنسانية في مدينة نيويورك وقد كان حضور تلك المناسبات يدفعون ثمن وجبة عشاء كاملة، ولا يقدم لهم إلا الفاصوليا والأرز. ومن الأمثلة الأخري علي الصوم نجد صوم البلوغ بين أفراد قبيلة الأوجيبو Ojibwa. والصوم المهني بين سكان جزيرة كاريبIsland Carib. وكذلك صوم الأيرلندي كي ينذر دائنه بحالة مرضية مؤكدة توشك علي الحدوث له لو أصر علي تحصيل ديونه، أو الصوم من أجل إخضاع عدو وقهره. وعلي الرغم من أن ديانات الجماعات الخاصة أو الطوائف تشهد كلها حدوث حالات من الصوم في أشكاله التقليدية؛ إلا أن أتباع الديانة البوذية وكذلك أتباع معظم الطوائف البروتستنتية لا يمارسون الصوم إلا قليلاً. ولعل أحد التأويلات الممكنة لوجود مثل هذا التمايز بين تلك الديانات هو أن تلك الأديان المتمركزة حول جماعتها أو طائفتها أديان تقوم علي أساس "الأخويات القبائلية" التي تعمل، بدورها، علي جعل لفكرة التضحية المتبادلة من الأفكار المؤسسة لها، بينما تعتبر الديانات والمذاهب التي لا تتمركز حول مجتمع بعينه أو طائفة بعينها كالبوذية والبروتستنتية، ديانات ومذاهب تقوم علي أساس فكرة "الأخويات الشاملة أو العامة" وهي أخويات قليلاً ما تعزز فكرة التضحية أو الفداء. فسيولوجيا الصوم قد يتم القيام بالصوم الديني من خلال أفراد يفعلون ذلك بمفردهم (الصوم الخاص) أو بالاتفاق مع الآخرين (الصوم العام). وخلال حالات الصوم هذه، يكون الطعام المستبعد في العادة هو اللحوم، وذلك لأنه الأعلي قيمة، وقد تتطلب عملية الصوم الدينية امتناعًا تقليديًا عن بعض الأغذية أو كلها لفترة من الوقت، وبخاصة عندما يكون المرء جائعًا. وقد يحاكي الصوم الديني الإرادي عملية الصوم المرضي، وذلك لأن المرض غالبًا ما يؤدي إلي الفقدان اللاإرادي للشهية. ويتوقف معظم البشر والحيوانات، وعلي نحو غريزي، عن التناول للطعام، وذلك عندما يشعرون بالمرض، كما أنهم يستمرون في التحاشي للطعام، حتي يشعروا بأنهم أفضل. ونتيجة لذلك فقد أصبح التوقف عن تناول الطعام، ومنذ زمن بعيد، مرتبطًا بالشفاء من المرض. ويكون الهدف الأساسي من الصوم الديني الإرادي المحافظة الوقائية علي الصحة الروحية. وليس من قبيل المصادفة، أن يكون ذلك الصوم الذي يتم القيام به، عادة، من أجل التطهر الديني، قد أصبح يتم القيام به، أيضًا، من جانب الشخص المدني الواعي بصحته بوصفه صومًا تطهيريًا من أجل تنقية الجسد. وحيث إن البشر قد عانوا، تاريخيًا، من حالات دورية متكررة من نقص الطعام، فربما كانت عادة الصوم الديني قد تطورت كي تستخلص الفضيلة من الضرورة، وهكذا استخدمت عمليات الصوم التي قد تصل إلي ثلاثة أيام لخفض الشعور بدافع الجوع. وهناك أيضًا أمثلة وافرة علي تلك الأعشاب التي قد تساعد علي منع الشعور بالجوع، هكذا يمضغ الهنود الذين يعيشون فوق جبال الأنديز أوراق أشجار الكوكا لمنع الشعور بالجوع والتعب. وكذلك استخدمت مواد مثل البِيُّوت* والتبغ والقهوة والشاي وما شابه ذلك لخفض الشهية أو تبليدها. وبالإضافة إلي ذلك، فإن تلك الأعشاب التي تكون لها نكهة أو رائحة عالية، تستثير، كذلك، الحساسية العضلية الحركية اللمسية، فتقوم بتوجيه الانتباه بعيدًا عن الإحساس بالجوع. وقد استخدمت عمليات الصوم الطويل التي تحدث في حالة شبه انعزالية، غالبًا، لتوجيه الممارسين لها أثناء رحلاتهم الخاصة المتعلقة بالاتصال الروحي. وقد تعمل حالة الهتر أو الهذيان delirium التي تصاحب حالات الصوم الطويل، علي الرغم من أنها ينظر إليها علي أنها مفعمة بالمخاوف، علي رفع حالة إنكار الذات لدي الصائم وتصل به إلي تلك المكانة الخاصة للمتنبئ، أو العراف، الخاص بالمجتمع وقد كان يطلب من الأولاد والبنات، منذ وقت مبكر من أعمارهم، ولدي قبائل الألجونكين Algonquin أن يقوموا بالصوم الطويل القاسي. وقد كان يتوقع من مثل حالات الصوم أن تستحث الأحلام وغيرها من الانطباعات الرؤيوية الكشفية التي تطبع شخصية كل واحد من هؤلاء الصغار عبر حياته. ومن الناحية الفسيولوجية، هناك مبررات تقف وراء اعتبار الصوم مفيدًا؛ فخلال المرحلة الأولي منه، يعيش الجسم علي مخزونه من المواد الأساسية المخزونة فيه. لكن خلايا الجسم لا تحترق كلها أو تتلف علي نحو غير متمايز، وبدلاً من ذلك فإن الخلايا الجافة والمعطوبة والميتة هي التي تحدث بداخلها عمليات الأيض (الهدم والبناء) أولا. ويضاف إلي ذلك أن الأعضاء التي تقوم بمهمة إزالة الشحوم من الجسم، تكون أكثر كفاءة خلال الصيام وذلك لأنه لا يكون من المطلوب منها، خلال ذلك، أن تتعامل بكفاءة مع ذلك التدفق الخاص بغذاء جديد يحتوي علي مواد سامة إضافية. هكذا يتاح الوقت للأجهزة التي تقوم بالهضم للطعام والمعالجة والتخلص منه كي تستريح وأن تتعافي. وأثناء الصوم ينخفض الأداء الخاص بالمهارة الحركية، بما في ذلك أيضًا الوظيفة الجنسية، لكن ذلك كله يتزايد علي نحو سريع عندما تستأنف عملية التناول للطعام. ونتيجة لذلك قد يفيد الصوم الذي يتم علي فترات، أو علي نحو دوري، الرجال، كاستراتيجية من استراتيجيات زيادة احتمالية حدوث الحمل لدي الإناث، لو قام الرجال بالاستئناف لعملية تناول الطعام بعد صومهم، وبما يتزامن، أو يتفق مع، عملية الإباضة (خروج البويضة من المبيض) الخاصة بزوجاتهم. في عام 1964 قام عدد من الأطباء النفسيين بدراسة عملية الصوم المتحكم فيه والذي استمر أيامًا عديدة. وكان المشاركون في الدراسة اثني عشر رجلاً، لم يكونوا قد تقابلوا مع بعضهم أبدًا، قبل أن تبدأ هذه الدراسة، وقد قام هؤلاء الأفراد في البداية بالتركيز علي أنفسهم بدرجة أكبر وعلي الآخرين بدرجة أقل، ولكن وبعد انتهاء الصوم، فإنهم اتفقوا علي أن المرور بمثل هذه التجربة مع بعضهم البعض جعل المعاناة أمرًا أيسر، وخلق لديهم أيضًا إحساسًا ما بالترابط المشترك بينهم. وعلي الرغم من أن هذا الصوم الخاص بهذه الجماعة المتآزرة مع بعضها البعض قد قام بإضعاف كل فرد منهم بدنيًا، فإن خضوع هؤلاء المشاركين للتضحية المتبادلة قد خلق لديهم رباطًا قويًا ومستمرًا. ولو تحدثنا، من الناحية التاريخية، فإن التضامن القائم علي أساس التحالف والتوافق بين البشر يجلب لهم مزايا عظيمة عديدة، وبخاصة خلال أوقات التوتر الداخلي الناشئ عن ندرة الطعام، أو بسبب تلك التضحيات التي يقوم بها المحاربون في معركة. إقامة الولائم كاستعراض "عندما يعطي رجلاً عظيمًا شيئًا، أو يمنحه لآخر، تكون هذه علامة علي الشهامة، أما عندما يُعَطي رجل فقير شيئًا لآخر فإن هذا يكون علامة علي العبودية". المؤرخ العربي، ابن خلدون في ذلك العالم القديم، كانت إقامة الولائم نشاطًا دوريًا متكررًا يقوم به أعضاء الطبقات العليا الذين يقدرون علي المشاركة التنافسية في تلك التسلية الخاصة بالكرم والتبذير. وفي مصر القديمة، كانت وجبة تناول الطعام العامة أشبه بالخبرة الجمالية. كذلك تعرفت الحكومات في الحقبة الرومانية أهمية كفالتها أو رعايتها للولائم الاحتفالية العامة في المناسبات الدينية، وذلك من خلال تقديمها لفنون التسلية وكذلك توزيع كميات وافرة من الطعام علي أقسام كبيرة من السكان. وقُدمت الولائم الهوميرية أيضًا من أجل إظهار تلك المكانة المرموقة الخاصة بالمضيف وكنوع من التملق من أجل كسب رضا ضيوف الشرف ذوي المنزلة العالية أيضًا. وعلي نحو نمطي، كان الضيوف من الذكور الراشدين يتكئون بقدر ما يستطيعون، علي أرائك، أثناء تناولهم الطعام، بينما تكون أرضية الغرفة أو المكان مغطاة عمدًا بالطعام الذي قام بطرحه جانبًا، متخلصين منه، هؤلاء المبذرون الذين كانوا يتناولون الطعام مفعمين بالتباهي والغرور. كذلك كانت حفلات العشاء الباذخة في روما القديمة تتم بإفراط يبلغ حد السوقية والابتذال، فلم تعرف المآدب الإمبراطورية الفخمة والباذخة حدودًا أو قيودًا. وقد كان يمكن للمتغندرين المتأنقين من القوم هناك أن يمروا عبر تغيرات عديدة في الملابس الناصعة التي تم تزيينها وزخرفتها بإتقان بالغ، وذلك أثناء تقدم الدورة أو الترتيبات الخاصة بوجبة عشاء واحدة. أما من ذلك الذي كان يدعي إلي تلك الولائم؛ ومن كان يتم تجاهله، فقد كان ذلك موضوعًا من الموضوعات التي يوجه إليها اهتمام كبير هناك. كذلك كانت ترتيبات مواضع الجلوس أثناء تلك المناسبات، تكشف عن المنزلة الاجتماعية المتدرجة للضيوف. ومن أجل تأكيد فكرة الفصل في مواقع الجلوس، كان الطعام الأفضل يقدم لذوي المكانة الأعلي وعلي مشهد واضح صريح من أقرانهم الأقل مرتبة أو مكانة. ومن ذلك الذي يستطيع أن ينسي تلك المعالجة المرحة الصاخبة التي قام بها المخرج فيدريكو فيليني لحالات الإسراف في التناول للطعام والشراب خلال العشاء والخاصة ب"بيترونيوس ساتيركون Petronius Styricon"؟ فقد كانت مآدب الطعام التي أقيمت في القصور في إيطاليا خلال القرن السادس عشر وقائع باذخة متعددة الوسائط، وقد أقيمت من أجل أن تذهل حواس الضيوف بشدة وتهيمن عليها. وقد كان من الممكن أن تشتمل الوليمة التي تسبق الصوم الكبير علي خمس من الوجبات الرئيسية المنفصلة والتي يقدم خلالها ما بين 15 إلي 19 طبقًا. وقد استخدم المنظمون للحفلات الأرستقراطية في ذلك الوقت دليلاً إداريًا لتنظيم مثل هذه المناسبات وتسييرها عنوانه: Della Scalca. وقد كان يعقب تقديم الحيوانات كقرابين، في روما القديمة، التناول أو الاستهلاك الجماعي للحومها. ومنذ القدم، كان أثرياء القوم من الرومان أيضًا ينظرون شذرًا إلي تفضيل الإغريق تقديم السمك أكثر من اللحوم في مآدبهم، لكنهم قاموا بعد ذلك بتغيير أفكارهم إلي حدٍ ما، عندما أدركوا أن أنواعًا معينة من الأسماك قد تكون مرتفعة الثمن بدرجة كبيرة، وأن بعض الأطباق التي تحتوي علي الأسماك قد تكون ذات تأثير فعال تمامًا، مثلها مثل اللحوم، أثناء ذلك الاستعراض الواضح والاستهلاك الضروريين من اجل التقديم لوليمة ناجحة. أما لاحقًا، وفي العالم المسيحي فلسوف يصبح تقديم السمك في الوجبات رمزًا ممثلاً للتعلق بالقيم الروحية الخاصة بالمسيح. فعلي غير شاكلة اللحم والذي يعتقد أنه يثير شهوة البدن، فإن السمك قد نظر إليه علي أنه موصل إلي التقوي، وذلك بسبب تأثيره المهدئ الذي يساعد علي التخفيف من وطأة الشغف أو الانفعالات القوية والتغلب كذلك علي حالات الإغراء. وفي أوروبا الإقطاعية كان ينظر إلي ثلاثة من الأنشطة علي أنها هي التي ترتبط علي نحو وثيق بين أي ملك وبين طبقة الأثرياء أو ذوي السلطة الآخرين في مملكته: الديانة المسيحية المشتركة، والصيد والوليمة. وهكذا أصبحت المأدبة، وسيلة يستطيع الملك من خلالها أن يحافظ علي روابطه وصلاته مع هؤلاء الذين قد يتوقع منهم الولاء والإخلاص. وبالإضافة إلي ذلك، فإن انتشار المسيحية قد أدخل تلك الممارسة المتعلقة بالتنظيم لما يأكله الناس ومتي يأكلونه، وكيف أيضًا. وقد أدي وصم الشراهة بالخطيئة إلي ظهور ذلك التأكيد علي أهمية الوصول إلي المكانة المحترمة من خلال المعرفة بمجموعة من آداب المائدة والانصياع لها كذلك. وقد أصبحت سلوكيات مثل الإصرار علي الالتزام بمواضع الجلوس علي المائدة، ومعرفة ما الشوكة التي ينبغي أن تستخدم، وضرورة ابتلاع الطعام قبل الكلام، إشارات قوية دالة كلها علي المكانة الاجتماعية. وقد كانت الأمثلة الرئيسية الأولي والدالة علي إقامة الولائم باهظة التكاليف في الأمريكتين؛ وبخاصة تلك التي حدثت خلال مهرجانات الشتاء التي أقامها الهنود الحمر من سكان البلاد الأصليين عند الساحل الشمالي الغربي. وتميز "مهرجان الشتاء" والذي كان يتمركز حول التمسك بالرسميات والطقوس الدينية بذلك التقديم المجاني لكميات هائلة من الطعام والأشياء الأخري عالية القيمة للآخرين. وقد استخدمت تلك المناسبات للتصديق علي جدارة ولاية المضيف لمركز أو مرتبة عالية، واحيانًا ما كان يحدث أنه عندما ينجح ذلك الشخص المطالب بالمكانة في مراكمة بضائع أو سلع كافية أنه كي يمنحها للآخرين مجانًا علي نحو باذخ ومسرف لتبرير مكانته المكتسبة الجديدة. كذلك كانت المآدب الإمبراطورية الأولي في الصين، في جانب منها، ذات طابع طقسي، ديني، وقد نظمت هذه المآدب وأعدت كي تظهر قوة السلطة، وحيث كان يُكلف خلالها ألفان من الخدم (2000) كي يقوموا علي الخدمة الخاصة بتقديم الطعام. وتتمثل واحدة من أكثر الطرق كفاءة في الاكتساب للمكانة الاجتماعية في أن يكون المرء مقدمًا أساسيًا للطعام إلي الآخرين. وعلي نحو مألوف، تم تقييم الكرم خلال عملية تقديم الطعام للآخرين بوصفه علاقة دالة علي الخلق الطيب، وبالإضافة إلي ذلك، فإن التوزيع العادل للطعام من جانب من في يدهم السلطة، علي أتباعهم كان، مثله، مثل الكرم، وسيلة لترسيخ التحكم والمكانة والاحتفاظ بهما أيضًا. وقد علّق بات كابلان P. Caplan علي السبب الذي تواصلت من أجله الولائم التي تنم عن الولع بالتفاخر والتباهي واستمرت. حيث قال إن الولائم هي ميدان معدي معوي سياسي (أي ميدان للمعدة والأمعاء والسياسة) خاص بتعزيز المكانة وآلة رافعة، يكون لزامًا خلالها علي هؤلاء الذين حَسُن طالعهم فزوجوا أحد أطفالهم أن يظهروا كرمهم من خلال تقديمهم الطعام للآخرين. ومن المنظور الأيثولوجي (أي الخاص البيولوجيا السلوكية) يمكن تعريف المكانة الاجتماعية بأنها منزلة أحد الأفراد الاجتماعية والتي تحدد قدرته - أو قدرتها - علي الحصول علي مكاسب شخصية من خلال تأثيره الخاص علي سلوك الآخرين. وبالإضافة إلي الفوائد القريبة (المدي القريب) والتي تتحقق لذوي المكانة خلال حياتهم، هناك أيضًا تلك الفوائد الأكثر استمرارًا ودوامًا بالنسبة لذريتهم، أو بالنسبة لهؤلاء الذين يرثون مكانة عالية من أسلافهم أو أجدادهم، وهي وراثة تسمي "التميز الوراثي" Hereditary Privilege ففي أي جيل من الأجيال، وأيًا ما كان المبرر، يكون في مقدور هؤلاء من ذوي المكانة الاجتماعية المرتفعة الوصول الأفضل إلي الموارد الخاصة المهمة في التكاثر وغيرها من الموارد، ومن ثم يمكنهم، لهذا السبب، أن يحققوا في المتوسط أعظم حالات النجاح الإنجابية أو التناسلية. خلال الهرم التراتبي داخل المجتمع، تكون هناك علاقات مباشرة بين المكانة الاجتماعية وبين وجود تاريخ ما من المنح للطعام للآخرين. هكذا اعتمدت الولائم التي أقيمت من أجل إحياء الذكري الخاصة ببعض المناسبات الدينية علي ذلك الكرم الواضح للمانحين للطعام. فعندما يقدم هؤلاء المانحون الواهبون الطعام (عادة بكميات وافرة) خلال الأعياد والمهرجانات الاجتماعية، ترسل إشارات صادقة من هؤلاء المستفيدين من هذا الخير، الشاكرين لأصحابه، فحواها أن مكانتهم العالية مكانة مبررة تمامًا، وأنهم جديرون بها. فصل من كتاب:"بيولوجيا السلوك الديني" يصدر قريبا عن المركز القومي للترجمة